تحقيق: أحمد الشريف - "سعاد".. ربة منزل مصرية، في العقد الرابع من عمرها؛ أصُيبت بمرض الفشل الكلوي قبل عام تقريبا، ورضيت بقضاء الله، وأخذت تتردد بشكل أسبوعي على مستشفى القصر العيني لإجراء عمليه الغسيل الكلوي طلبا لعلاج او "مُسكن" لآلامها، يُقويها على استكمال مسيرتها في الحياه، وتربية أبنائها الأربعة، ولكنها لم تتخيل أن يكون طريقها للعلاج، هو نفس طريق المزيد من الأوجاع.
فقد اكتشفت بعد خمسة اشهر من بدء عمليات الغسيل أنها أصيبت بفيروس "سي" في الكبد؛ لتزداد مأساتها، خاصة أن الأطباء أكدوا لها أن الإصابة نتيجة سوء استخدام أجهزة الغسيل الكلوي بالمستشفى وليس وراثيا، للتحول حياتها إلى جحيم، ودخل الأسرة كله أصبح لا يكفي لإعادة إحياء الأمل في العلاج.
الإهمال يقتل براءة "محمد"
"سعاد" ليست الحالة الوحيدة التي فتك بها الفيروس، بسبب الإهمال في وحدات الغسيل الكلوي بالمستشفيات، فالطفل "يوسف" الذي لم يتعدى عمره الأربعة عشر عاما، يتردد على مستشفى قصر العيني للغسيل الكلوي بعد إصابته بالمرض اللعين؛ الذي حرمه من لهو الطفولة البريء، ويترك مقعده بالمدرسة وسط أصدقائه، ليستبدله بسرير بالمستشفى مع رفقائه في المرض، والدة الطفل تحضره باستمرار لإجراء عملية الغسيل، متحملة كل أنواع المشقة، حيث تقطع عشرات الكيلو مترات من محافظة الفيوم (حيث تقيم) إلى المستشفى من اجل إعادة البسمة - ولو للحظات - على وجه ابنها الوحيد.
فجأة.. حدثت للطفل مضاعفات كادت أن تقضي عليه، بعد إجراء إحدى عمليات الغسيل، لتهرول به الأم إلى الأطباء، ليأتي تشخيصهم فاجعة لها، حين اخبروها إصابة الابن بالفشل الكبدي لأسباب غير معلومة، لتبدأ رحلة معاناة جديدة، ولكنها معاناة أكثر قسوة.
سرنجة الغسيل الكلوي السامة
نفس الشيء حدث مع "ايمن" - 30 سنة - الذي أصيب بفيروس "سي" بسبب عدم اهتمام إحدى الممرضات بتغيير سرنجة الغسيل الكلوي، وأكد " انه على الرغم من أن الأمر دمر حياتي، وجعلني عاجزا عن العمل، إلا أن المسئولية تاهت بين الممرضين والأطباء ومسئولو المستشفى، ولم يعترف احد منهم بوجود خطأ منهم.
وأشاروا إلى أنني مصاب بالبلهارسيا من الأساس برغم أنني لم اشتكي ولو مرة واحدة من هذا المرض، قبل دخولي في دوامة الغسيل الكلوي، كما أنني وبالكشف عند أطباء متخصصين من خارج المستشفى، نفوا إصابتي بالبلهارسيا، وأكدوا على أن الأمر حدث بسبب الإهمال".
مثل هذة الحالات، هناك المئات الذين تسبب الإهمال في وحدات الغسيل الكلوي إلى مضاعفة آلامهم، وإصابتهم بفيروس "سي" وهو ما يوضحه الدكتور أسامة عبدالعظيم - أستاذ أمراض الباطنة بكلية طب قصر العيني - والذي أعد دراسة مع فريق طبي متخصص، كشف فيها عن أن 90% من مرضى الغسيل الكلوي يصابون بفيروس "سي" نتيجة أخطاء وإهمال افي خدمة التمريض.
تعليمات منظمة الصحة العالمية
قال عبدالعظيم: "فكرة الدراسة جاءت بعد ملاحظتنا أن 90% من المرضى الذين يترددون على وحدة الغسيل الكلوي أصيبوا بفيروس "سي"، وبالبحث عن السبب اكتشفنا انه يعود إلى عدم إتباع مسئولو التمريض الأسس الصحيحة التي حددتها منظمة الصحة العالمية عند التعامل مع المريض، مثل استخدام "قفاز" عند التعامل مع المريض الواحد، وتغييره عند متابعة مريض أخر، وأيضا الاهتمام بنظافة وحدة الغسيل الكلوي بشكل دائم، والاحتراز من رزاز الدم المتطاير من المرضى، الذي يسبب وصوله من شخص مصاب إلى جرح أي شخص مجاور له إلى إصابته بالفيروس".
وأوضح أن إتباع هذه التعليمات يقلل نسبة انتقال العدوى بشكل كبير مثلما حدث في وحدات الغسيل الكلوي بالسعودية وقلت نسبة الإصابة بين المرضى المترددين عليها بفيروس "سي" من 40% إلى 20%، وأشار إلى أن المشكلة في مصر تكمن في ضعف الميزانية لتوفير الأدوات التي تستخدم لمرة واحدة مع كل مريض.
أعضاء هيئة التمريض اختلفوا حول الدراسة
مسئولو التمريض كانت لهم وجهة نظرهم، واختلفوا حول صحة نتائج الدراسة، فالبعض أكدوا حرصهم على إتباع أساليب الوقاية اللازمة في وحدات الغسيل الكلوي، والبعض الأخر أشاروا إلى الصعوبات التي يواجهونها في عملهم مما يضطرهم إلى التساهل في أوقات كثيرة.
يقول "وائل فاروق" - مسئول التمريض بوحدة الغسيل الكلوي بالقصر العيني -: "إن ما جاء بالدراسة صحيح مائة في المائة؛ لأنه لا يوجد وسيط بين المريض أثناء عملية الغسيل، سوى المُمرض أو الممرضة، وبالتالي فالمسئولية عليهم لو حدثت أي عدوى أو إصابة من خلال الدم".
ورغم ذلك أكد "وائل" على التزام أعضاء التمريض بالمستشفى بتعليمات مراكز حماية العدوى، وخصوصا فيما يتعلق بالنظافة والتطهير الدائم.
أحداث فردية
"أمنية عبدالمجيد" - مديرة مدرسة التمريض التابعة لمستشفى قصر العيني الفرنساوي- رفضت تحميل التمريض مسئولية انتشار العدوى أو الأمراض بسبب الإهمال في تعقيم وتطهير أجهزة الغسيل الكلوي.. وقالت " كل أمور التمريض خاصة استخدام أدوات الوقاية يدرسها الطالب من أول يوم في دراسته للتمريض".. ولكنها أشارت أيضا إلى أن هذا لا يعني عدم وقوع بعض الأخطاء الفردية من بعض الممرضات والممرضين ولكن لا يمكن تعميمها.
وطالبت بضرورة توفير العائد المادي المجزي لهيئات التمريض، حتى يلتفت العاملون بها ويتفرغون لعملهم، ونتحاشى الإهمال الذي قد يقع منهم.
وأشارت إلى وجود مشكلة أخرى تتركز في قلة أعداد العاملون في التمريض، وان مصر مقبلة على أزمة تمريض خلال السنوات المقبلة؛ وذلك نتيجة قرار وزير الصحة المفاجئ بتحويل مدرسة التمريض إلى معهد وإضافة عامين دراسيين على مدة الدراسة المقرره بالمدرسة، الأمر الذي ترتب عليه وجود عجز في أعداد الخريجين.
مسئولية الطبيب
أما "فتحي البنا" - رئيس نقابة التمريض - فيرى انه لايمكن أن يؤدي الإهمال في التمريض وحده إلى انتشار فيروس "سي" بين مرضى الفشل الكلوي؛ لان من يدير ويتحكم في غرف الغسيل هو فريق متكامل من ممرضين وأطباء وغيرهم، فالممرض هو مجرد مساعد للطبيب فقط، وترخيص مزاولة مهنته تنص على ذلك وليس - للممرض - الحق في اتخاذ أي إجراء علاجي للمريض، وبالتالي فالعمل بوحدات الغسيل الكلوي تقع تحت مسئولية الطبيب وحده.
ضعف الإمكانيات
في حين رفضت الدكتورة "هدى زكي" مستشارة وزير الصحة لشئون التمريض أيضا تحميل التمريض مشكلة انتشار الأمراض في وحدات الغسيل الكلوي لان الممرض أو الممرضة يعملان – من وجهة نظرها - وفق الإمكانيات المتاحة لدية من أدوات ومواد مطهرة وغير ذلك وهي بالفعل إمكانيات غير متوفرة بالشكل المطلوب.
بينما الدكتور سعيد شلبي – أستاذ أمراض الكبد بالمركز القومي للبحوث - الذي يتفق مع ماجاء في الدراسة أوضح"أن السبب في انتشار العدوى هو غياب "الأمانة" عند هيئات التمريض والتي تتمثل مثلا في استخدام سرنجة واحدة لأكثر من مريض من باب التوفير".
غياب الرقابة عن المؤسسات العلاجية.
أما الدكتور "حمدي السيد" - نقيب الأطباء - فقال: "انه من غير المنطقي تحميل التمريض وحدة للمشكلة بل المسئولية تقع على المؤسسة العلاجية ككل، التي تغيب عنها الرقابة والمحاسبة، سواء كانت هذة المؤسسات مستشفيات أو عيادات".
وأضاف: "بصفتي رئيسا للجنة الصحة بمجلس الشعب، فقد توجهنا بالعديد من التوصيات إلى وزير الصحة؛ بخصوص توفير عائد مادي مناسب لأعضاء هيئة التمريض، وتكثيف الدورات التدريبية لهم من اجل الارتقاء بالمستوى المهني والعملي ولكن لم يُنفذ شيئا".