بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المجتبى، محمد وآله وصحبه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن بهم اقتدى فاهتدى.
أما بعد،
فإن من أعظم الفتن الفكرية، ومن أخبث المؤامرات على العقل الإسلامي المعاصر، تلك المحاولات الجريئة لتحويل المحكمات إلى متشابهات، والقطعيات إلى محتملات، قابلة للقيل والقال، والنقاش والجدال، مع أن هذه المحكمات والقطعيات هي التي تمثل (ثوابت الأمة) التي انعقد عليها الإجماع المستيقن، واستقر عليها الفقه والعمل، وتوارثتها الأجيال جيلاً إثر جيل.
وكل دارس للشريعة الإسلامية وفقهها، يعلم علم اليقين: أن هناك دائرتين متمايزتين، لكل منهما خصائصها وأحكامها.
الأولى: دائرة مفتوحة وقابلة لتعدد الأفهام، وتجدد الاجتهادات، ومن شأنها أن تختلف فيها الأقوال، وتتنوع المذاهب. وهذه الدائرة تشمل معظم نصوص الشريعة وأحكامها.
فهي دائرة مرنة منفتحة. وهذامن رحمه الله بعباده، لتتسع شريعته للعقول المتباينة، والمشارب المختلفة، والوجهات المتعددة. ولا غرو أن وسعت الظاهري والأثري وصاحب الرأي.
الثانية: دائرة مغلقة، لا تقبل التعدد ولا الاختلاف، لأنها تقوم على نصوص قطعية الثبوت والدلالة، لا تحتمل إلا وجهاً واحداً، ومعنى واحداً، لأنها تجسد وحدة الأمة الفكرية والشعورية والعملية، ولولاها لانفرط عقد الأمة وتحولت إلى أمم شتى، لا تربطها رابطة عملية. وقد حافظت الأمة طوال العصور الماضية على أحكام هذه الدائرة، وانعقد الإجماع عليها علماً وعملاً.
والمؤامرة اليوم تتجه إلى هذه الدائرة، تريد اختراقها وإذابتها، لتتمزق الأمة وتنحل، ولا يبقى لها شيء تجتمع عليه.
وهذا سر ما نراه من تشكيك في البديهيات واليقينيات وما علم من الدين بالضرورة، من مثل التشكيك في تحريم الخمر، أو تحريم الربا.
وقد يمكن أن يفهم هذا حين يصدر من العلمانيين واللادينيين والشيوعيين وأمثالهم. أما الذي لا يفهم ولا يعقل فهو أن يحطب في هذا الحبل بعض من يتحدثون باسم الدين، ويروجوا بغبائهم بضاعة أعداء الدين.
لقد كان من ثمار الصحوة الإسلامية في المجال الاقتصادي: التوجه إلى إنشاء بنوك لا تعمل بالفائدة، التي أجمع العلماء على أنها هي الربا الحرام، وكانت هي البديل الشرعي العملي للبنوك القائمة على أساس الفوائد الربوية التي لم يبتكرها المسلمون، وإنما ورثوها من عهود الاستعمار في أوطانهم، كما ورثوا القوانين الوضعية، وغيرها. وبهذا بطلت دعوى الذين قالوا: لا تحلموا ببنوك بلا فائدة، والفوائد عصب البنوك. وقد توسعت البنوك الإسلامية، ودخلت جل أقطار المسلمين، ولا تزال تزداد.
ونحن لا ننكر أن في البنوك الإسلامية أخطاء تصغر أو تكبر، وتقل أو تكثر، ما بين بنك وآخر، وذلك لأن العنصر البشري فيها جاء أساساً – في الغالب – من البنوك التقليدية، فعقله مركب تركيباً ربوياً، وليس عنده أي خلفية إسلامية، ولا حماس عنده للفكرة، ولا فقه في المعاملات الشرعية. ولا غرو أن تقع منه أخطاء وربما انحرافات. كما أن من الظلم أن نحكم على البنوك الإسلامية كلها حكماً واحداً، فهي لا شك تتفاوت تفاوتاً كبيراً. فبعضها بلغ مرحلة مهمة من التدقيق الشرعي كما في مصرف قطر الإسلامي، الذي كون إدارة خاصة لهذا التدقيق، وبنك قطر الإسلامي الدولي.
وبعض البنوك الإسلامية يطور معاملاته، ويتخلص بالتدرج من بعض الشوائب التي اضطر إليها، وبعضها لم يدخل في المعاملات التي كثر حولها الكلام، مثل بيع المرابحة، وسوق السلع والمعادن الدولية، كما هو شأن بنك التقوى.
ومهما يكن الأمر، فلا ريب أن البنك الذي ينص قانون تأسيسه ونظامه الأساسي على وجوب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في جميع معاملاته، والابتعاد عن المحظورات الشرعية فيها من الربا والغرر الفاحش والظلم والاحتكار والغش وغيرها .. ويفرض عليه وجود رقابة شرعية تعتبر قراراتها ملزمة واجبة التنفيذ بلا تردد .. مثل هذا البنك وإن ظهر في ممارساته بعض الخلل: أفضل من بنك لا يلزمه قانون ولا عرف برعاية أحكام الشرع.
وفي الواقع أنا لا يهمني البنك الإسلامي بقدر ما يهمني الحكم الشرعي، وأعني به تحريم الربا، الذي تعرض في الآونة الأخيرة لحملة مشبوهة مدبرة، ضمن الهجمة الكبيرة الشرسة المدروسة لكل ما هو إسلامي، في ميادين الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة أو السياسة أو غيرها.
ولقد سمعنا في هذه الحملة الصحفية والإذاعية كلاماً عجباً: فقد رددوا (اسطوانات) قديمة، كان قد فرغ العلماء من الرد عليها وإبطالها، مثل التفريق بين ربا الجاهلية وربا العصر الحاضر، والتمييز بين ربا الإنتاج وربا الاستهلاك. ودعوى أن الربا المحرم ما كان أضعافاً مضاعفة .. الخ. هذه الدعاوى التي رد عليها علماء ومفكرون شرعيون واقتصاديون، أمثال العلامة أبي الأعلى المودودي، ود.محمد عبدالله دراز، ود.عيسى عبده إبراهيم، ود.محمد عبدالله العربي، والشيخ محمد أبي زهرة، ود.محمود أبو السعود، وغيرهم من العرب والعجم.
وقد دخل في هذه الحملة من يحسن ومن لا يحسن، وإن كان مما نحمد الله عليه أنه قلما يوجد فيهم فقيه معتبر من أهل الفقه المشهود لهم، المعروفين بإنتاجهم الفقهي الذي يقدره العلماء.
ووجدنا من هؤلاء من يذكر اختلاف الفقهاء في علة الربا، في حديث الأصناف الستة المشهور، وينقل تضعيف ابن عقيل الحنبلي لكلام الفقهاء في العلة، ونحن لا نناقش العلامة ابن عقيل، ولكن نقول: إن حديث الأصناف الستة في (ربا البيوع) والمعركة إنما هي حول (ربا الديون) وهذا لا خلاف فيه. وهو ما تقوم عليه البنوك التقليدية.
وذهب بعضهم إلى أن الربا إنما هو في الذهب والفضة، ونحن اليوم نتعامل بالنقود الورقية، فلا هي ذهب ولا فضة، وعلى هذا لا يجري فيها الربا، ولا تجب فيها الزكاة! وهذا كلام أوهى من أن يرد عليه. وقد رددت عليه قديماً في كتابي (فقه الزكاة).
وقال بعضهم: إن البنك ليس شخصاً مكلفاً، يتوجه إليه الأمر والنهي، وزعم أن الشرع لا يعرف (الشخصية المعنوية) وهو جهل قبيح. فقد عرض الشرع الشخصية المعنوية في (بيت المال) وفي (المسجد) و(الوقف) وغيرها. وجاء في أحاديث الزكاة في الصحاح اعتبار الخليطين في الماشية بمثابة شخصاً واحد، وطرده[1] بعض الفقهاء في كل الأموال، وهو ما أخذ به مؤتمر الزكاة المنعقد بالكويت، في اعتبار الشركات كالشخص الواحد. وكأن هذا القائل يبيح للشركات أن تروج الخمر، وتتاجر في الدعارة، وغيرها، لأنها ليست شخصاً مكلفاً!!
وقال من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لقي ربه ولم يبين ما هو الربا، ورووا في ذلك أثراً عن عمر، وهم عادة لا يعنون بالآثار ولا يعتمدونها، وإن صح هذا فهو في صور ربا البيوت الجزئية. أما ربا النسيئة أو ربا الديون، فهو مما لا ريب فيه، ولا يختلف فيه اثنان.
وإني لأعجب لهؤلاء كيف يتصورون أن يحرم الله شيئاً، وينزل فيه من الوعيد الهائل ما لم ينزله في غيره، كما في قوله تعالى : (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون) [البقرة : 276-279].
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: "ما ظهر الزنى والربا في قرية إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله".
كيف سمع الصحابة رضي الله عنهم هذا كله، ولم يعرفوا ما هو الربا؟ ولم يسألوا عنه؟ وكيف لم يبينه لهم الرسول الكريم؟ والبيان – كما يقول العلماء – لا يجوز أن يتأخر عن وقت الحاجة؟
وكيف يكتمل الدين وتتم به النعمة إذا لم يتبين أهله المحرمات الكبيرة المتصلة بحياة الناس؟ وما معنى قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة:3].
ومما اتفق عليه هؤلاء المماحكون في تحريم الفوائد البنكية: ادعاؤهم أنه لايوجد دليل على تحريم التحديد المقدم للأرباح في عقد المضاربة.
ونقول لهؤلاء: بل هناك دليلان شرعيان مؤكدان:
أولهما: الإجماع الذي نقله ابن المنذر والنووي وابن قدامة وغيرهم على عدم جواز التحديد المقدم؛ ولم يشذ عن ذلك فقيه واحد، ولا مذهب من المذاهب
وثانيهما: الأحاديث الصحاح التي جاءت في منع المزارعة بشيء معين، مثل ثمار قطعة معينة من الأرض، أو مقدار معين من الثمرة، خشية أن تسلم هذه القطعة ويهلك غيرها، أو العكس، فيكون لأحدهما الغنم يقيناً، وللآخر الغرم، وهذا ينافي العدالة المحكمة التي ينشدها الإسلام.
قال العلامة ابن قدامة: والمضاربة مزارعة في المعنى.
وصدق رحمه الله، فالمضاربة مزارعة في المال، كما أن المزارعة مضاربة في الأرض.
الحق أني لم أجد للممارين المماحكين فيّ بالباطل في تحريم الفوائد أي منطق قوي، أو حجة مقنعة، إلا دعاوى أوهن من بيت العنكبوت.
وحسبنا أن المجامع العلمية والفقهية الإسلامية، والمؤتمرات العالمية للاقتصاد الإسلامي والفقه الإسلامي كلها قد أجمعت على أن الفوائد البنكية هي الربا الحرام. وهو ما تضمنه هذا الكتاب.
لقد مر العقل الإسلامي في المجال الاقتصادي بعدة مراحل:
مر بمرحلة (التبعية) الفكرية المطلقة، التي ترى ضرورة أخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها، وحلوها ومرها.
ثم بمرحلة (التبرير) للواقع الذي فرضه الاستعمار بما فيه الفوائد، ومحاولة تجويزه بفتاوى شرعية.
ثم بمرحلة (الدفاع) أو (الاعتذار) الذي يعتبر الإسلام وكأنه في قفص الاتهام، فكل ما خالف حضارة الغرب وقيم الغرب، يجب الاعتذار منه، والدفاع عنه.
ثم مر بمرحلة (المواجهة) للغرب وحضارته وفلسفاته وقيمه وتشريعاته، وأن للغرب دينه ولنا ديننا، وهي بداية الصحوة الإسلامية.
ثم مرحلة (العمل) أو (إيجاد البدائل) الشرعية للواقع المخالف للإسلام، وفيها تعاون علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد الإسلامي، مع رجال المال والأعمال، في إقامة البنوك الإسلامية.
ثم مرحلة (تحسين البدائل) وتطويرها، وتصحيح أخطائها، وتجميع قواها، والتنسيق بين بعضها وبعض، وتوحيد مفاهيمها وفتاويها، أو على الاقل تقريب بعضها من بعض.
وفي هذا الإطار قام البنك الإسلامي للتنمية في جدة بالتعاون مع البنوك الإسلامية لإيجاد (هيئة عامة للمحاسبة المالية) لهذه البنوك انبثق منها (مجلس للمعايير) يضم الشرعيين والمحاسبين والاقتصاديين، وهو يعمل منذ سنوات بجد واجتهاد، لإيجاد معايير مشتركة للبنوك الإسلامية، وقد فرغ من عدة معايير، وهو ماض في طريقه لاستكمال المعايير المنشودة.
وبعد أن قطعنا هذه المراحل، يريدنا هؤلاء الممارون: أن نرجع القهقرى، ونرتد إلى (مرحلة التبرير) من جديد، محاولين أن نحلل الفوائد التي هي الربا الحرام.
لقد كنا حسبنا أن هذا الموضوع قد حسم وفرغ منه، وأغلق ملفه، حتى قام من قام بفتحه من جديد، وأعادها جذعة، كما كانت منذ سبعين عاماً أو تزيد.
ولكن الذي يطمئننا، هو: وضوح الحق، بنصاعة أدلته، وقوة رجاله، ووهن الباطل، وتهافت منطقه، وتناقض أصحابه، وكما قيل: الحق أبلج، والباطل لجلج، وكما قال تعالى (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء:81]، (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) [الرعد:17].
الآن حصحص الحق، وتبين الرشد من الغي، فليختر كل امرئ لنفسه الطريق الذي يريد: إما طريق الجماعة، وإما طريق الشذوذ، وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً: "إن الله لا يجمع أمتي – أو قال أمة محمد – على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار".
يوسف القرضاوي