إفشاء الأسرار
د. عمر عبدالكافي
بتصرف من حلقات آفات اللسان
ومن آفات اللسان الخطيرة التي لا تعصف بالأفراد فقط، ولكن تعصف بالأسر وبالمجتمعات، ألا وهي: آفة إفشاء الأسرار.
إفشاء الأسرار نوع من الخيانة، وإفشاء السر حرام على كل إنسان مكلف؛ لأنه ليست القضية عند إفشاء السر فحسب، ولكن إفشاء السر في داخله آفة خيانة الأمانة. نفرض جدلا أن إنسانا أسرّ إلي سراً، أخبرني بسر ثم مات هذا الإنسان، هل يستطيع الإنسان إفشاء سر من مات؟ أولاً المسألة تقديرية، ومعنى تقديرية: يعني الإنسان يعقلها ويدبر المسألة في عقله، ويقول: هل إذا قلت عن هذا السر، الذي أفشاه إلي أو أفضى به إلي هذا المتوفى يعود على صاحبه بغضاضة وبتنقيص، هذا يحرم.
والسر إذا كان لا يعود عليه بغضاضة ولكن قد ينقص من قدر هذا المتوفى، إذا ذكرنا هذا السر، فهذا مكروه، مكروه أن أتحدث به.
أما أنه لا يحدث غضاضة أو نقص ولا يحدث له زيادة فهنا يباح.أما إن كان هذا السر يترك أثراً طيباً، ويذكر المتوفى بالخير، وتذكر أعماله بالخير أنه كان يصنع شيئاً طيباً، ولكن كان هذا من باب السر، ولا يعلمه إلا هذا المحدث عنه، فهذا أمر يستحب أن يذكر لأن أحياناً يندب إفشاء السر للمصلحة العامة.
فيوسف عليه السلام تحدث عن سر التي راودته عن نفسها، وسر النسوة اللاتي قطعن أيديهن؛ لأن الملك لو كان صدّق ما اتهم به يوسف لما ولاه عنده خزائن مصر في أعوام المجاعة التي أصابت البلاد. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج:38) الخوان هو الذي يخون الأمانة، هو الذي يفشي السر. وقد حدث هذا الحدث العجيب من أمهات المؤمنين: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم:3).........
فمسألة إفشاء الأسرار أحياناً تكون من هذا الإطار، لكن إفشاء الأسرار وقد استأمننا الناس عليها خيانة كبيرة وهذه كارثة عظمى، وهذا أمر خطر يحل بالمجتمع.
ألم تقرأ معي قصة أنس بن ثابت لما قال: مرّ بي النبي –صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الصبيان، فسلم علينا ثم بعثني في حاجة، فجئت وقد أبطأت عن أمي فقالت: ما حبسك؟ أين كنت؟ قلت: بعثني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى حاجة، قالت: أي بني، وما هي؟ فقال الغلام –انظر إلى أنس وهو غلام صغير في الثانية عشر من عمره- قلت: إنه سر؟ قالت: لا تحدث بسر رسول الله أحدًا، ثم قال: يا أنس لو كنت حدثت بها أحدًا (1) – هو أنس يحدث نفسه بهذا يعني - يا أنس لو كنت حدثت بها أحدا للام نفسه ولَوَبّخ نفسه، لأنه يظهر ويكشف عن سر رسول الله – صلى الله عليه وسلم. ومن ضمن الأمانات وحفظ الأسرار: من غسّل الميت، يغسل الرجل مثلاً صديقاً له أو أخاً له في الله أو مسلماً، فلا يجب أن يكشف أسرار جسده، ولا تكشف الأخت أستار وأسرار جسد أختها، وهي تغسلها؛ لأن من غسل ميتاً فأدى فيه الأمانة، ولم يفش عليه ما يكون منه؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، كما في حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه ثم ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (2). الإنسان في حقيقة الأمر يجب أن يكون محافظاً وستيراً على أسرار غيره لأن الله تعالى ستّار حليم؛ إذ يجب أن نتخلق بأخلاق ستر العورات وستر الأسرار، وعدم كشفها الأسرار.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عرضت علي الجنة بما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به، فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه ما بين السموات والأرض لا ينقصونه شيئا...... ثم عرضت علي النار، فلما وجدت سفعها – يعني: لفحها وشعاعها - تأخرت عنها، وأكثر ما رأيت فيها النساء اللاتي إن أؤتمنّ أفشين، وإن يُسألن يبخلن، وإن يَسألن ألحفن" (3).
ولعلنا رأينا كيف حفظ أبو بكر سرّ زواج النبي صلى الله عليه وسلم من حفصة، فعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة، فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها (4). يعني: الرسول كان يشاور أبا بكر في زواجه صلى الله عليه وسلم من حفصة، رضي الله عنها، فما كنت أفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.هكذا نتعلم من الصحابة الغر الميامين هذا الخلق الطيب.ورأينا في كتب التاريخ أهل الكوفة؛ سنوات طويلة يفتحون أبوابهم، للفقراء بالذات، يجدون الطعام والشراب والكساء والمال، سنوات طويلة ما يعرفون من الذي يضع هذا كله على عتبات بيوتهم، إلا لما مات علي زين العابدين ابن الحسين – رضي الله عنهم وعن آل البيت - فانظر إلى الذين يصنعون الخير في السر(5).
ولعلنا قرأنا أيضا وكلنا نعرف عندما حضرت المنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسرّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة ابنته، رضي الله عنها، بكلام، فبكت ثم ضحكت، وتسألها عائشة، رضي الله عنها: ما الذي سارّها الرسول به فبكت ثم ضحكت، قالت: ما كنت أفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي أخبرت فاطمة أن الرسول أخبرها أن جبريل كان يعارضه القرآن مرة كل عام، ولكن في هذا العام عارضه أو راجعه القرآن مرتين، ولا أرى إلا أن الأجل قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فبكت، فقال لها: أما ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة، فضحكت، رضي الله عنها.وتمام الحديث عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مرحباً بابنتي" ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثاً، فبكت فقلت لها: "لم تبكين"؟ ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها، فقالت:أسر إلي أن"جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين وما أراه إلا أنه حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي" فبكيت، فقال:" أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين"، فضحكت لذلك (6). فانظر إلى حتى حفظ السر وعدم إلحاح عائشة رضي الله عنها على فاطمة بأن تقول لها، لو كان في زمننا هذا لألحّت الواحدة على أختها لتقول لها ماذا قيل لك، وماذا قال فلان، وماذا قالت فلانة، وليس هذا من الإسلام في شيء، لأننا يجب أن نعيد ترتيب أولويات سلوكياتنا مرة أخرى وفق منهج الكتاب والسنة.ومن المسائل الخطيرة التي تهدم البيوت: أن رجلاً يحفظ سره عند زوجته، يسرها بكلام، فتجلس مع أمها أو أختها أو صديقتها فتهتك ستر الرجل، وتخبر الناس أو صديقاتها عن أسرار زوجها، هكذا. والعكس كذلك، المرأة تسر إلى زوجها حديثاً فيصبح ليحدث به جلساءه، هذه أيضا مصيبة كبيرة، لماذا؟ لأن من أكبر الخيانات عند الله تعالى أن الزوجة تكشف و تهتك ستر زوجها أو العكس، كما في حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها" (7).
ولعل ما ورد في السنّة المطهرة حديث أم زرع وهذا حديث جميل، ولو حفظناه جميعا لكان جميلا في الجزء الذي يخص أم زرع، جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تبث حديثنا تبثيثا، يعني هي لا تشيع هذا الحديث ولا تفشيه وإنما تكتمه ولا تنقث ميرتنا تنقيثا، أي لا تفسد الطعام المجلوب إلى البيت، دليل على أن هذه الخادمة أمينة، ولا تترك بيتنا تعشيشا، أي لا تترك القمامة فيه، فهي تحافظ على نظافة البيت (8).
كان العباس، رضي الله عنه، ويرى أن عبد الله بن العباس ابنه مقرب من عمر أمير المؤمنين ابن الخطاب، رضي الله عنهم، فكان يوصي العباس ابنه ويقول له: لا تفشين لأمير المؤمنين سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تجرين عليه كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلع منك على خيانة (9).
فكما قال أهل الحكمة: من أفشى السر عند الغضب فهو لئيم؛ لأن كتمه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة.
أحبتي في الله، إفشاء الأسرار آفة خطيرة، وكتم السر فضيلة عظيمة.
فاللهم اجعلنا من الذين يكتمون أسرار الناس، ولا يهتكون أستار الناس، ولا يكشفون أسرار الناس ولا يفشون أسرار إخوانهم, إنك على ما تشاء قدير.
1 )- أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/1929) رقم (2482).
2 )- صحيح بطرقه يطول البحث في إثبات صحته، انظر: "الترغيب والترهيب" (4/175)،و"التمهيد" (1/378)، و"الكامل" (3/308).
3 )- حسن أخرجه أحمد في"المسند" (3/352)، والضياء في "المختارة" (3/395)، من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، وقال: "إسناده حسن".
4 )- أخرجه البخاري (4/1471) رقم (3783).
5 )- انظر لهذا الخبر "سير أعلام النبلاء" (4/393).
6 )- أخرجه البخاري (3/1362) رقم (3462)، ومسلم في "صحيحه" (4/1905) رقم (2450).
7 )- أخرجه مسلم في"صحيحه" (2/1060) رقم (1437).
8 )- حديث أبو زرع رواه البخاري في "صحيحه" (5/1988) رقم (4893)، ومسلم في "صحيحه" (4/1869) رقم (2448) من حديث عائشة، رضي الله عنها.