الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه سطور في التعريف بإمام من أئمة الدعّوة السّلفية، نفع الله به كثيراً، وعالج العديد من المسائل والأمور في شتى ميادين الحياة، وأصَّل مبادئ دعويّة كثيرة، وتكلم عن قضايا منهجيّة هي الآن حديث السّاعة، وأثارت نزاعاً شديداً بين طلبة العلم، ومرادنا من هذه السطور التعريف بهذا العلم من النّاحية الشخصيّة إلقاء الضوء على شخصيّته الدّعويّة من خلال تعرّضه للأمور التّاليّة:
أولاً: الدعوة السّلفيّة والسّياسة وفقه الواقع.
ثانياً: الدعوة السّلفيّة والانتخابات.
ثالثاً: الدعوة السّلفيّة والعلم.
* شخصيّة محمد البشير الإبراهيمي:
- ولد الشيخ قسنطينة بالجزائر عام 1306 هجرية في الثالث عشر من شهر شوال، الموافق سنة 1889 ميلاديّة.
- وهو سليل قبيلة أولاد إبراهيم بن يحيى بن مُساهل التي يرتفع فيها إلى إدريس بن عبد الله الجدّ الأول للأشراف الأدراسة، ويدعى إدريس الأكبر مؤسس دولة الأدارسة في المغرب الأقصى، وترجع إليه أنساب الأشراف الحسنيِّين في المغربين الأقصى والأوسط.
- اتجه -رحمه الله- إلى الدراسة الدينيّة، وكان يتمتع بحافظة عجيبة وذاكرة قويّة، أكمل حفظ القرآن وهو في سن التاسعة، وتعلّم في هذه السِّن قواعد النحو والبلاغة، ودرس الفقه والعلوم الشرعيّة في سن مبكِّرة، وعندما بلغ العشرين من العمر هاجر على المدينة النبويّة ملتحقاً بأبيه، ومرَّ بالقاهرة ومكث فيها ثلاثة أشهر كان يتردّد أثناءها على الدرس بالأزهر الشريف، سافر بعد ذلك على المدينة النبويّة، وفيها درس على أيدي مشايخ الحرم النبوي الشريف، وكان يقوم بتدريس الفقه واللغة والأدب.
- عند قيام الحرب العالميّة الأولى استوطن مع والده دمشق، بعد أن أرغمته الدولة العثمانيةّ على الخروج من المدينة، وهناك اشتغل بالتّعليم الحر، ثمّ عُيّنَ أُستاذاً للآداب العربيّة في المدرسة السلطانيّة الأولى، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى الجزائر وعمل بالتدريس أيضاً.
- قام في الجزائر مع الشيخ هبد الحميد بن باديس بوضع مخطّط لمحاربة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وأنشأ جمعيّة علماء الجزائر سنة 1931م في الجزائر العاصمة.
- كان يهدف بهذه الجمعيّة إلى نشر تعاليم الإسلام الصّحيح المصفّى من البدع والخرافات، وإحياء اللغة العربيّة.
- كان -رحمه الله- خطيباً مفوّهاً، يتحدّث ببلاغة وصراحة وجرأة، وكان مجاهداً، صاحب همّة عالية لا تعرف الملل، وعالماً لا يخشى في الحقّ لومة لائم، كان يحفظ من عيون الشعر والأدب الأندلسي والمغربي، ويُلقي أُمّات القصائد عن ظهر قلب، وكان عالماً في مصطلح الحديث والفقه والنحو والصرف والمنطق والأصول وغيرها من العلوم.
- لم يكن الشيخ الإبراهيمي إقليمياً يناضل من أجل حريّة واستقلال بلاده الجزائر فقط، إنّما كان شخصيّة إسلاميّة معروفة في العالم الإسلامي بجهاده وكفاحه من أجل نشر الإسلام.
- كان -رحمه الله- سيفاً مصلتاً على المشعوذين، وبقايا السمسارين؛ الذين يتاجرون بالدّين، وتميّز --رحمه الله- بصراحته في الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، والالتزام بالكتاب والسنّة، ومنهج السّلف الصّالح.
- توفي الشيخ في التاسع عشر من أيار سنة (1965م) -رحمه الله تعالى-، وأسكنه فسيح جنّاته.
* سلفيّة الشيخ محمد الإبراهيمي -رحمه الله تعالى-:
نستطيع أن نلخص الركائز التي قامت عليها دعوة الشيخ الإبراهيمي في النقاط التالية:
أولاً: إصلاح عقيدة الجزائريّين، فقد كانت جمعيّة العلماء تركز عملها بصفة عامّة على مقاومة الخرافات والبدع التي شوَّهت عقيدة المسلمين، وتطهير عقيدتهم من مظاهر الشرك، سواء العلني منها أو الخفي.
كان -رحمه الله- يرى أن العقائد السليمة هي قاعدة الإصلاح في المجتمع، وهو ينادي بأن حالة التدهور العام التي وصل إليها المسلمون في القرون الأخيرة إنّما تعود إلى تدهور العقيدة لدى الفرد المسلم وتطرُّق الشرك الخفي إليها.
ثانياً: مقاومة الصوفيّة المبتدعة.
ترتبط مقاومة الصّوفيّة المبتدعة بإصلاح العقيدة ارتباطاً وثيقاً، وقد كشف الإبراهيمي -رحمه الله- عن مخازي هؤلاء وحاربهم بشدّة، وعاملهم بما يستحقّون لأنهم تاجروا باسم الدّين، وزجّت بهم فرنسا في أتون المعركة، فأصغ إليه وهو يقول: «في أيام الحملة الكبرى على الحكومة الفرنسيّة ظهر هؤلاء بمظهر مناقض للدّين، فكشفوا الستر عن حقيقتهم المستوردة، ووقفوا في صفِّ الحكومة مؤيِّدين لها، خاذلين لدينهم وللمدافعين عن حريّته مطالبين بتأييد استعباده، عاملين بكل جهدهم على بقائه بيد حكومة مسيحية تخرِّبه بأيديهم، وتشوّه حقائقه بألسنتهم، وتلوث محاربيه ومنابره بضلالتهم»، ويقول: «وقد أخذوا في الزمن الأخير ببعض مظاهر العصر، وتسلّموا بعض أسلحتهم بإملاء من الحكومة للدفاع عن الباطل، فكوّنوا جمعيّة، وأنشأوا مجلة، وجهّزوا كتيبة من الكتاب يقودها أعمى -خذلاناً من الله- ليشنرك عاقلهم وسفيههم في هذه المخزيات، وبحكم العموميّة في الجمعيّة، والاشتراك في المجلّة، ولو في دائرته الضيّقة ومن أهله وجيرانه... دافعناهم -عندما ظهروا بذلك المظهر- بالحق فركبوا رؤوسهم، فتسامحنا قليلاً إبقاءً على حرمة (المحراب) و (المنبر) التي انتهكوها، فشدّدوا إبقاء على حرمة (الخبزة)!! فكشفنا عن بعضنا الحقائق المستورة فلجّوا وخاضوا، وثاروا وخاروا، فلمّا عتوا من أمر ربهم رميناهم بالآبدة... وهي أنّ الصلاة خلفهم باطلة، لأنَّ إمامتهم باطلة... لأنهم جواسيس»!!
وقد عدّ الشيخ الإبراهيمي الصّوفية داءً عضالاً يجب التخلص منه، لتحرّر عقيدة المسلم من التّشويش، وتطلق لعقله العنان في التَّشيُّع وفهم الشريعة، فتراه يصرح بقوله: «إننا علمنا حقّ العلم بعد التّروي والتّثبت ودراسة أحوال الأمّة ومناشئ أمراضها أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام هي سبب تفرُّق المسلمين، ونعلم أننا حين نقاومها نقاوم كلّ شر، إنّ هذه الطرق لم تسلم منها بقعة من بقاع الإسلام، وإنَّها تختلف في التّعاليم والرّسوم والمظاهر كثيراً، ولا تختلف في الآثار النّفسيّة إلا قليلاً، وتجتمع كلها في نقطة واحدة وهي التّخدير والإلهاء عن الدّين والدّنيا».
ويتابع شارحاً مخاطر الطرقيّة وبدعها، حيث تعلٌّ كثيرٌ من المسلمين بطقوس طريقتهم، وبطروحات مشايخهم، ولم يعودوا على اتّصال مباشر مع الكتاب وصحيح السّنّة، بل أصبحت هذه الطرق حاجزاً بينهم وبين مصادر الشريعة، وكأنها دين جديد، لقد أصبحت بعض الطرق -كما يرى الإبراهيمي- في بلاد العرب والمسلمين، وفي الجزائر بخاصّة، إضافة جديدة إلى محاولات الدّس التي قان بها أعداء كثيرون للإسلام، إن كان بنحل الأحاديث، أو بالتّأويلات المزوِّرة للحقيقة، أو ما شاع عند العديد من الحركات الباطنيّة، ولكن يعود ليؤكد أن هذه كان خطره أقل بكثير من خطر هذه الطَّريقة، فيقول: «أما والله ما بلغ الوضّاعون للحديث، ولا بلغت الجمعيّات السريّة ولا العلنيّة الكائدة للإسلام من هذا الدّين عشر معشار ما بلغته من هذه الطُّريق المشؤومة... إنّ هذه الهوَّة العميقة التي أصبحت حاجزة بين الأمّة وقرآنها هي من صنع أيدي الطرقيّين».
ويقول مقرِّعاً الصوفيّة والطّرقيَّة وفهمهم الخاطئ للإسلام: «... فكل راقص صوفي، وكل ضارب بالطبل صوفي، وكل عابث بأحكام الله صوفي، وكل ماجن خليع صوفي، وكل مسلوب العقل صوفي، وكل آكلٍ للدّنيا بالدّين صوفي، وهلُّم سحباً، أفَيَجْمُلُ بجنود الإصلاح أن يدعوا هذه القلعة تحمي الضُّلال وتؤويه، أم يجب عليهم أن يَحملوا عليها حملةً صادقةً شعارهم: (لا صوفيّة في الإسلام) حتى يدكُّوها دكّاً، وينسفوها نسفاً، ويذروها خاوية على عروشها».
وقد كان -رحمه الله تعالى- في محاربته للصوفية وخرافاتهم وترَّهاتهم متأثراً بتعاليم حركة الشيخ محمد عبد الوهاب الإصلاحيّة، ويتضح ذلك عندما نراه يعلل هجوم المتاجرين بالدّين على هذه الدّعوة السُّنّية الإصلاحيّة في البلاد الحجازيّة التي سمَّاها خصومها بـ (الوهَّابية) -تنفيراً وتشويهاً- لأنها قضت على بدعهم، وحاربت خرافاتهم، فيقول: «إنهم موتورون لهذه الوهَّابية التي هدمت أنصابهم، ومحت بدعها فيما وقع تحت سلطانها من أرض الله، وقد ضجَّ مبتدعة الحجاز فضجّض هؤلاء لضجيجهم والبدعة رحم ماسة، فليس ما نسمعه هنا من ترديد كلمة (وهابي) تُقذف في وجه كل داعٍ إلى الحقّ إلا نواحاً مردّداً على البدع التي ذهبت صرعى هذه الوهَّابية».
تكلّمنا في الحلقة الأولى عن شخصية هذا العلم وعن سلفيّته، وقلنا: إن دعوته قامت على ركائز، نستطيع حصرها فيما يلي:
أولاً: إصلاح العقيدة.
ثانياً: مقاومة الصوفيّة المبتدعة.
ونتابع في هذه الحلقة الكلام عن ركائز دعوته، فنقول:
ومنها أيضاً:
ثالثاً: محاربة الفهم الخاطئ للإسلام:
يرى الشيخ الإبراهيمي أن المتاجرين باسم الدين كان لهم أسوأ الأثر على عقول النّاس، حيث خدّروها بالأوهام، وملأوها بالخرافات والإدّعاءات التي ليست من الدين الحنيف في شيء، فكان فعلهم مشوّشاً للإيمان عند العامّة مانعاً للتّفاعل الرّوحي المتعقّل من تعاليم الإسلام.
ومكمن خطر هؤلاء أنّ رأس مالهم التدجيل والتحريف، وبضاعتهم في هذه الأمّة المسكينة التي أحكموا الحيلة في تخديرها بالرؤى والمنامات، وزعزعوا عقيدتها بالله بما أثبتوه لأنفسهم من التّصرف في الكون أحياءً وأمواتاً، ومن مشارك الخالق فيما تفرُّد به من الأمر والخلق، وأفسدوا فطرتها الدينيّة بما ابتدعوه لها من عبادات (ميكانيكيّة) هي إمّا زيادة في الدين أو نقص فيه.
وظهرت آثار هذه المحاربة في التّركيز أولاً على إصلاح عقيدة النّاس، وعلى محاربة الصوفيّة المبتدعة التي كانت منتشرة آنذاك.
ومن آثارها أيضاً:
محاربة التّعصب المذهبي المقيت: وكان الإبراهيمي يركز على هذا أشدّ التركيز، وكان يعدّث التعصب المذهبي سبباً من أسباب تفرُّق المسلمين، فها هو يقول وهو يتكلم بهذا الصدّد: «هذه العصبيّة العمياء التي حدثت بعدهم -أي: الفقهاء والأئمة الأربعة على وجه الخصوص- للمذهب والتي نعتقد أنهم لو بُعثوا من جديد لأنكروها على أتباعهم.
ويقول: «وقد طغت شرور العصبيّة للمذاهب الفقهيّة في جميع الأقطار الإسلاميّة، وكان لها أوسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وإن في وجه التّاريخ الإسلامي منها لندوباً».
ويرى شيخنا الإبراهيمي أنّ سبب الوحدة الحقيقي هو الدّين، وأن ما يجتمع عليه النّاس من غيره آفاق ضيّقة! هفا هو يقول: «الأوطان تجمع الأبدان، واللغات تجمع الألسنة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلِّفها ويصل بين نكرات القلوب فيعرفها هو الدّين، فلا تلتمسوا الوحدة في الآفاق الضيّقة، ولكن التمسوها في الدّين، والتمسوها في القرآن، تجدوا الأفق الأوسع، والدّار أجمع، والعديد أكثر، والقوى أوفر».
ويرى الشيخ الإبراهيمي أيضاً أنّ ابتعاد النّاس عن المفهوم الحقيقي للإسلام يجلب لهم لا محالة التّفرق والتشرذم، ومن مستلزمات ذلك الاعتماد على أسس ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد هؤلاء المبتدعين يعتمدون تارة على علم الكلام، ويقدّسون (العقل)، وتجد بعهم الآخر ينخلع تماماً عن ذلك، ويغرق في الكلام عن الرّوح، فها هو يصرح بأن الجدل وعلم الكلام: «هو مبدأ التفرق الحقيقي في الدّين، لأن المتكلمين يزعمون أن علومهم هي أساس الإسلام، والصوفيّة يقولون: أن علومهم هي لباب الشريعة وحقيقتها».
فهو -رحمه الله تعالى- عالج جميع الأسباب التي يجتمع عليها فئات من النّاس، ويتّخذونها أساساً فيما بينهم على الالتقاء على شارة ما، أو اسم معين، أو مذهب فقهيّ، أو عقليّ، أو روحيّ ، ولذا ترى عنده من السّماحة، وبُعد الأفق؛ وسعة الصّدر، ما هو حقيقٌ بمثله، بحيث كان مصلحاً حقّاً، بعيداً عن التّعصُّبات المقيتة، نابذاً القوالب الحزبيّة الضيّقة، فهو لا يعمل لاسمٍ أو رسمٍ، وإنّما للإسلام ذات الإسلام بفهم سلف الأمّة الصالحين.
وكان -رحمه الله تعالى- إيجابيّاً في دعوته، انطلق من أسس راسخة في الإصلاح، وأوجز مهام هذا بقوله: «إيصال النّفع والخير إلى الأمّة، ورفع الأميّة والجهل عنها، وحثّها على العمل وتنفيرها من البطالة والكسل، وتصحيح فهمها للحياة وتنظيف أفكارها وعقولها من التّخريف، وتنظيم التّعاون بين أفرادها وتمتين الصّلة والثّقة بين العامة والخاصّة منها، وتعليمهم معاني الخير والرّحمة والإحسان لجميع الخلق».
المصدر شبكة المنهاج الاسلامية