إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [آل عمران]
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)[ النساء]
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)[الأحزاب]
أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
عباد الله!
لقد كان من كمال نصح النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأُمة، أنه أخبر عن اختلافها من بعده اختلافاً كثيراً وأنها ستفترق من بعده فرقاً كثيرةً مُتناحرة يُكفِّرُ بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفِرقة التي يكون الحق حليفُها هي : من لزمت الأمر الأول، الأمر العتيق الذي كان عليه هو صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، لذلك لما أخبر بالاختلاف أمر بالتمسك بالسُّنَّة فقال: (( وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عَضُّو عليها بالنواجذ )).
وهذا الاختلاف والتفرُّق يَصِلُ إلى مسائل العلم والعمل والأُصول والفروع ، تفرَّقت هذه الأمة .
ومن أشهر الأحاديث الواردة في الافتراق حديث معاوية وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (( تفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) وهي الجماعة .
وإن من كمال دين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم رُغم الفتن الكثيرة التي أطلَّت على ساحة الإسلام في زمانهم، إلا أنهم تمسكوا في هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم فكانت نجاتهم بلزوم السُّنَّة .
وأول وأشهر هذه الفِرَق ظهوراً وأسوأها أثراً على ساحات المسلمين لأنهم أصحاب دولة وسيف وإن كان الروافض الشيعة شرٌ منهم في الاعتقاد وأخبث فإن بدعة الشيعة نشأت عن سوء القصد بخلاف هؤلاء فهؤلاء من سوء الفهم وغَلَو غُلُواً أداهم إلى هذا أقول: أول هذه الفِرَق هي:
( الخوارج ) وكان من أول الظهور أن جاء رجلٌ يُقال له: ( ذو الخويصرة )، ذو الخويصرة التميمي فأغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم .
يقول أبو سعيدٍ رضي الله عنه: (( أرسل علي بن أبي طالب بذُهيبةٍ في أديمٍ مقروظٍ يعني: في جلدٍ مدبوغٍ لم يُرفع عنه الترابُ بعدُ فوضِعَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسَمه صلى الله عليه وسلم بين أربعة، لزيد الخير، والأقرع ابن حابس التميمي، وعُيينة بن حصن، و علقمة بن عُلاثة، فلم يرض عن ذلك أقوامٌ ووجد آخرون فقال صلى الله عليه وسلم: (مالي أراكم لا ترضَون عن قسمتي ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء في الصباح والمساء) فرضي القوم وجاء رجلٌ من بينهم غائرُ العينين ناتئ الجبين كَثُّ اللحية حليقُ الشعر فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله يا رسول الله ـ يأمر نبينا بالتقوى في سياقٍ يتضمن تخوينه والتنقيص من أمانته صلى الله عليه وسلم ـ اتق الله يا رسول الله فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه ونظر إليه وقال: (ويحك ألستُ أحقَ من اتقى الله في المسلمين) ، فولَّى الرجلُ مدبراً فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: (لا ، لعله يكون من المصلِّين) قال: يا رسول الله رُبَّ مُصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال: (لا ، إني لم أؤمر أن أُنَقِب عن قلوب المسلمين ولا أن اشُق عن بطونهم)، فلمَّا ولَّى الرجل نظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو مُقْف فقال: سيخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ يقرأون القرآن لا يُجاوز حناجرهم )).
لم يرضوا عن ذكر الله سيعترضون على ظاهر القرآن بآرائهم الفاسدة كما اعترض هذا على هدي رسول الله برأيه الفاسد، (( يقرأون القرآن لا يُجاوز تراقيهم )) لا يُجاوز الإيمان والتسليم إلى قلوبهم، لا يُجاوز تراقيهم (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، هذا الرجل ذو الخويصرة هو أول الخوارج وهو على ما سمعتم غاية في القَحة والقُبحِ والغلظة حيث اعتدى على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم واتهمه في دينه وأمانته .
وفي بعض ألفاظ الحديث قال: اعدل يا محمد. يتهمه بالظلم .
يقول الحافظ ابن كثير في (( مباحث دلائل النبوة )) في (( البداية والنهاية )): وهذا الخبر من أعلام النبوة لأنَّه خرج من ضئضئ هذا أقوامٌ يحملون فِكْرَهُ وأول ظهورهم كان في زمان علي رضي الله عنه خرجوا على عليٍ في حين قتال أهل الشام مع أهل العراق، وكان عليٌ رضي الله عنه يتلمس هذه الصفات فيه، ومن أبرزها أنهم استحلُّو دماء المسلمين وأغاروا على سرح المسلمين على مواشيهم السائمة على أموال المسلمين وفيهم رجلٌ مُخدج على كتفه الأيمن ثديٌ كثدي المرأة عليه حلمة وحوله شعيرات ويُقال له: ( ذو الثُدَية ).
لما قاتلهم علي بن أبي طالب قال: انظروا في ذي الثُدية فوالله لقد أُخبِرت عنه من النبي صلى الله عليه وسلم فلما بحثوا ولم يجدوه قالوا: ما وجدناه قال: والله ما كذبتُ ولا كُذِّبت ابحثوا فوجدوه فسجد رضي الله عنه عنه شكراً، أتعرفون لِمَ سجد شكراً؟ سجد شكراً لأنه وُفِّقَ لقتال الطائفة الخارجة على أصحاب رسول الله، لقد قاتل الخوارج لقد عَمِل عملاً صالحاً يُحبه الله .
قتال الخوارج عملٌ صالح يُحبه الله، قتال التكفيريين الذين كفَّروا الأُمة وكفَّروا الحُكام واستحلوا دماء الأبرياء عملٌ صالحٌ يُحبه الله .
حتى قال صلى الله عليه وسلم فيهم : ((هم شر قتلى تحت أديم السماء )) فإن كانوا هم من شر القتلى بل هم شر القتلى فإنَّ قاتلهم خيرُ القاتلين حتى قال عليه السلام: (( خير الناس من قتلهم أو قتلوه )).
وقال عن نفسه عليه السلام: (( والله لإن أدركتهم لأقتلنهم قتال عادٍ وثمود )).
خرجت هذه الطائفة، كفَّرت علي بن أبي طالب، وكفَّرت معاوية واجترؤوا على أصحاب رسول الله وليس هذا بالغريب فقد اجترؤوا على رسول الله وبعد أن كفَّروا الصحابة غَلَوا في مسألة: الحُكم بما أنزل الله وصاروا يجيئون إلى آيةٍ نزلت في الكفار فيجعلونها في المسلمين ونزَّلوها على أوائل الصحابة من أصحاب رسول الله .
وكان عليٌ يقول في كلامهم: (( كلام حق أُريد به باطل )) غايةٌ في الجهل والتناقض يتورعون عن سفاسف الأمور ويستحلُّون دماء المسلمين .
ذكر الحافظ ابن كثيرٍ: أن رجلاً يُقال له أبو أيوب كان مع عليٍ يوم النهروان طعن رجلاً من الخوارج في رمحٍ حتى أنفذه من ظهره، فلما طعنه هذا الرجل الصالح قال للخارجي: مُت إلى النار يا عدوَّ الله ! فقال الخارجي وهو يموت:
(( ستعلم أيُّنا أولى بها صِلِيَّا )).
يظنُّون أنهم على الحق يقولون من خير قول البرية كما قال صلى الله عليه وسلم كلامهم منمق نُريد تحكيم الكتاب والسُّنَّة، نُريد إعادة الخلافة، نُريد أن نُقيم دولة التوحيد هذا كلامهم وأما فهمهم فليس كفهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أبعد ما يكونون عن أصحاب رسول الله غَلَو في العبادة فاستقطبوا بذلك البُلهَ ومن لا يعرف الحق .
حتى قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم )) من شدة عبادتهم .
عبد الله بن وهب الراسبي من الخوارج كان من شدة صلاته قد قحل مواضع السجود ولا يُسمي علي بن أبي طالب إلا بالجاحد الكافر .
مَرُّوا لما خرجوا بجموعهم ما بين الجمل وصفين مرُّوا على عبد الله بن خباب بن الأرَتْ صاحب رسول الله ومعه امرأةٌ حامل، امرأةٌ له حامل فروَّعوهمَ ثم اقتادوهمَ وقال له: حدِّثنا بشيءٍ سمعت به عن رسول الله، وحدَّث عن أبيه بحديث (( ستكون فيكم فتنٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم والقائم خيرٌ من الماشي )) ومع ذلك اقتادوه فمرُّوا على خنزيرٍ ضربه أحدهم بسيفه فشق جلده فقال له قائلٌ من المُتورِّعين الجهلة قال: أتضرب خنزيراً لذمِّي إذهب فاستَحِل فذهب واستَحَل الذمِّي وأرضاه، ورأى رجلاً منهم تمرةً عائرةً فالقاها في فمه فقالوا: أتأكل بغير ثمنٍ ولا إذن فألقاها، فلما وصلوا إلى النهر ذبحوا عبد الله كما تُذبح الشاة ثم بقروا بطن امرأته وقتلوها .
أتباعهم اليوم على هذه الصفات سفهاء الأحلام حُدثاء الأسنان يقولون من خير قول البريَّة لكنَّهم ينطوون على غلظة وجفاء وتكفيرٍ للعلماء وللحكام وللمسلمين إذا ذُكرت مسألة اللحوم المستوردة من ديار الكفَّار عاملوها مُعاملة الولاء والبراء والتوحيد ويُشددون النكير عليها، في الوقت الذي يستحلُّون فيه لحوم المسلمين الأبرياء ويُهوِّنون من مسألة تكفير ديار المسلمين يقولون: هذه مسائل فيها اجتهاد ومن مات بريئاً بُعث على نيته ونُريدُ كسر العدو ونصر الإسلام .
هوَّنوا أمر التكفير فهونوا استحلال الدماء فلا للعدو كسروا ولا للإسلام نصروا ما زادوا إلا أن أعادوا فكر الخوارج المتجدد في الأمة، والخوارج فكرٌ يتجدد الخروج فكرٌ يتجدد في الأمة لا يزال يظهر حتى قال عليه الصلاة والسلام: كما في (( الصحيحين )) (( لا تزال الخوارج تخرج حتى إذا كان آخر الزمان خرج سفهاء الأحلام حُدثاء الأسنان يمرُقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمية فاقتلوهم )).
فاقتلوهم يقول صلى الله عليه وسلم حدثاء الأسنان أكثرهم من الشباب الهائج المُتوثِّب يغْتَرُّ بما عليه كُبراء التكفيريين فيصير إلى الانضواء تحت لوائهم وأول شيءٍ يُجرِّعونه أنَّ الحُكام كُفَّار، وأن الديار ديار كُفر، وديار رِدَّة وأن العلماء يتواطئون مع الحُكَّام و السلاطين فليس من أحدٍ على حق إلا هُم دُعاتهم وأعلامهم وأقتابهم .
فيجب على دُعاة السُّنَّة أن يُحذروا منهم وأن يُغلِظوا الكلام وأن يُبيِّنوا عَوَرَ هذه الفرقة الضَّالة التي ما زادتنا إلا هواناً وسلَّطَتْ علينا الأعداء .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .