الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وترك أمته على محجةٍ بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله و سلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، قد كنتم ترتقبون مجيء شهر رمضان، فجاء شهر رمضان ثم خلفتموه وراء ظهوركم، وهكذا كل مستقبلٍ للمرء يرتقبه ثم يمر به ويخلفه وراءه حتى يأتيه الموت، لقد حلّ بكم شهر رمضان ضيفاً كريماً فأودعتموه ما شاء الله من الأعمال، ثم فارقكم شاهداً لكم أو عليكم بما أودعتموه، لقد فرح قومٌ بفراقه؛ لأنهم تخلصوا منه، تخلصوا من الصيام والعبادات التي كانت ثقيلةً عليهم، وفرح قومٌ بتمامه؛ لأنهم تخلصوا به من الذنوب والآثام بما قاموا به فيه من عملٍ صالح استحقوا به وعد الله بالمغفرة، والفرق بين الفرحين فرقٌ عظيم، إِنَّ علامة الفرحين بفراقه أن يعاودوا المعاصي بعده فيتهاونوا بالواجبات، ويتجرؤوا على المحرمات، وتظهر آثار ذلك في مجتمعهم، فيقل المصلون في المساجد وينقصون نقصاً ملحوظاً، "ومن ضيع صلاته فهو لما سواها أضيع"(ث)؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، إن المعاصي بعد الطاعات ربما تحيط بها فلا يكون للعامل سوى التعب، قال بعضهم: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنةً ثم أتبعها بحسنة كان ذلك علامةً على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنةً ثم أتبعها بسيئة كان ذلك قد يحبط عمل الحسنة عند الموازنة بينهما"(م1).
أيها الناس، إن عمل المؤمن لا ينقضي بانقضاء مواسم العمل، إن عمل المؤمن عملٌ دائبٌ لا ينقضي إلا بالموت، قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]. أيها الناس، لئن انقضى شهر الصيام وهو موسم عمل فإن زمن العمل لم ينقطع، ولئن انقضى صيام رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد، "فمن صام رمضان وأتبعه بستة أيامٍ من شوال كان كصيام الدهر"(1)، وقد سنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صيام الاثنين والخميس وقال: "إن الأعمال تعرض فيهما على الله عز وجل"(2)، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء رضي الله عنهم أوصاهم بصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر(3)، وقال صلى الله عليه وسلم: "صوم ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ صوم الدهر كله"(4)، وحثَّ على العمل الصالح في عشر ذي الحجة ومنه الصيام، وروي عنه صلى الله عليه وسلم "أنه كان لا يدع صيام عشر ذي الحجة"(5)، وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم"(6)، وقال في صوم يوم العاشر منه: "يكفر سنةً ماضية"(7)، وقال في صوم يوم عرفة: "يكفر السنة الماضية والمستقبلة"(8)، وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم في شهرٍ تعني تطوعاً ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله"(9).
أيها الناس، لئن انقضى قيام رمضان فإن القيام لا يزال مشروعاً كل ليلةٍ من ليالي السنة، حثّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ورغّب فيه وقال: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل"(10)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الله ينزل كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له"(11)، فاتقوا الله عباد الله، وبادروا أعماركم بأعمالكم، وحققوا أقوالكم بأفعالكم، فإن حقيقة عمر الإنسان ما أمضاه في طاعة الله، "وإن الكيس من دان نفسه أي حاسبها وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"(12).
أيها المسلمون، لقد يسر الله لكم سبل الخيرات، وفتح لكم أبوابها، ودعاكم لدخولها، وبيّن لكم ثوابها، فهذه الصلوات الخمسة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، "هي خمسٌ في الفعل وخمسون في الميزان"(13)، من أقامها كانت كفارةً له ونجاةً يوم القيامة، شرعها الله لكم وأكملها بالرواتب التابعة لها؛ وهي: "اثنتي عشرة ركعة: أربعٌ قبل الظهر بسلامين، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، من صلاهن بنى الله له بيتا في الجنة"(14)، وهذا الوتر سنة مؤكدة، سنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله، وقال: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل"(15)، فالوتر سنة مؤكدة جداً لا ينبغي للإنسان أن يدعه، حتى إن بعض أهل العلم قال: إن الوتر واجبٌ يأثم بتركه، وقال الإمام أحمد بن حنبلٍ رحمه الله: من ترك الوتر فهو رجل سوءٍ لا ينبغي أن تقبل له شهادة(م2)، وأقل الوتر ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة ووقته من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر(16)، ومن فاته الوتر في الليل قضاه في النهار شفعاً، فإذا كان من عادته أن يوتر بثلاثٍ فنسيه في الليل أو نام عنه صلاه في النهار أربعة ركعات، ففي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا غلبه نومٌ أو وجعٌ عن قيام الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة"(17)، وهذه الأذكار خلف الصلوات المكتوبة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاته "استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"(18)، "ومن سبّح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعةٌ وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"(19)، وهذا الوضوء "من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء"(20)، وهذه النفقات المالية من الزكوات والصدقات والمصروفات على الأهل والأولاد كلها تقرب إلى الله عز وجل، حتى على نفس الإنسان ما من مؤمنٍ ينفق نفقةً يبتغي بها وجه الله إلا أثيب عليها(21)، وإن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها(22)، وإن الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر(23)، والساعي على الأرملة والمساكين هو الذي يسعى بطلب رزقهم ويقوم بحاجتهم، وعائلتك الصغار والضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بأنفسهم هم من المساكين، فالسعي عليهم كالجهاد في سبيل الله أو كالصيام الدائم والقيام المستمر، فيا عباد الله، إن طرق الخير كثيرة فأين السالكون؟ وإن أبوابها لمفتوحة فأين الداخلون؟ وإن الحق لواضحٌ لا يزيغ عنه إلا الهالكون، فخذوا - عباد الله - من كل طاعةٍ بنصيب، فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77]، وفقني الله وإياكم لاغتنام الأوقات وعمارتها بالأعمال الصالحات، وجنبنا الخطايا والسيئات، وطهرنا منها بمنه وكرمه إنه واسع الهبات، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.