بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الألحان: جمع لَحْن، و قد يجمع على لحون، والمراد باللحن هنا التلحين وهو: أن يتفنن
القارئ في قراءته، لِيُصْدر أصواتاً مَصُوغةً بأساليب معينة، الأمر الذي
قد ينتج عنه تغيير لبنية اللفظ القرآني([1]).
ومثاله ما روي عن الإمام أحمد -رحمه الله- وقد سئل عن القراءة بالألحان؛ فقال
للسائل:«ما اسمك. قال: محمد. قال: أفيسرك أن يقال لك: يا موحامد ممدود»([2]).
والترجيع: مصدر رجّع، يُرجّع، ترجيعا، وهو ترديد الصوت في الحلق([3])، والمراد به في هذا
المبحث: تحسين الصوت، وتطييب القراءة، بكيفية قد ينتج عنها تغيير لبنية اللفظ القرآني
فيكون قريباً من التلحين([4]).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الترجيع إن أريد به ترديد الكلمة، مثل:
أن يتلو آية تخويف أو تحذير، فيرددها خوفاً وخشوعاً فلا بأس به([5]).
واختلف الفقهاء -رحمهم الله-في حكم قراءة القرآن بالتلحين والترجيع إلى قولين:
القول الأول: ذهبت طائفة من أهل العلم، منهم: الأئمة: مالك([6])،
والشافعي في إحدى الروايتين عنه([7])، وأحمد([8]) إلى منع ذلك،
وأنه مكروه. وهو ما رجحه أبو العباس، وأبو عبد الله القرطبيان([9])،
وغيرهما([10]).
القول الثاني: وذهبت طائفة أخرى منهم، كالإمام أبي حنيفة وأصحابه([11])، والإمـام
الشافعي في الرواية الثانية عنه([12])، إلى أن ذلك جائز. وهو ما اختاره القاضي
أبو بكر بن العربي([13]).
تحرير محل النـزاع:
قال أبو العباس القرطبي:«ولا يشك في أن موضع الخلاف في المسألة، إنما هو فيما إذا لم
يُغيّر التلحين لفظ القرآن بزيادة أو نقصان، أو ينبهم معناه حتى لا يفـهم السامع ما يقرؤه
القارئ، فهذا مما لا يشك فيه أنه حرام، فأما إذا سلم من تلك الأمور، وحذا به حذو أساليب
الغناء، والتطريب، والتحزين، فهو الذي اختُلف فيه»([14]).
منشأ الخلاف:
وسبب هذا الخلاف - فيما أرى- أن التلحين يتردد بين حالتين:
الأولى: أن يمطط القارئ في قراءته، فيخرج الكلام عن وضعه بزيادة أو نقصان، أو غير ذلك
مما يغير في بنية اللفظ القرآني.
الثانية:أن يحسن صوته، ويطيب قراءته دون تغيير لبنية اللفظ القرآني.
فمن منع نظر إلى الحالة الأولى، ومن أجاز لاحظ الحالة الثانية.
حجة القول بالمنع:
واحتج القائلون بالمنع بالأدلة التالية:
الدليل الأول: أن القرآن الكريم إنما أنزل لتدبر آياته، وتفهم معـانيه، قال الله I: ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭼ([15])، وقراءته بالألحان المطربة، المشبهة للأغاني، تخرجه عما جاء لأجله من
الخشوع والتفهم، وتثمر ضد الخشوع ونقيض الخوف والوجَل([16]).
الدليل الثاني: أن قراءة القرآن بالألحان أمر محدَث؛ وذلك لأن كيفية قراءة القرآن نقلت إلينا
نقلاً متواترًا، وليس فيها شيء مما يشبه التلحين، ولا أساليب إنشاد الأشعار، ولو كان
مشروعاً لتناقلته الأمة، جيلاً بعد جيل -كما تناقلت المد والقصر، والإمالة والفتح، ونحوها-
حتى يصل إلينا متواتراً، فلما لم ينقل مع توفر الدواعي على النقل، وكثرة الحريصين على
نقل كل صغيرة وكبيرة في كيفية قراءته، دل ذلك على أن التلحين ما كان معروفاً لديهم، ولا
معمولاً به فيما بينهم، فوجب ألا يعمل به، ولا يعرج عليه؛ لأنه بدعة([17]).
واعترض القائلون بالجواز على هذا الدليل بقولهم: هب أن هذه الكيفية متفق عليها متواترة،
لكن لا يلزم من ذلك منع كيفية أخرى، بل عندنا ما يدل على جواز قراءة القرآن
بالألحان([18]).
قلت: وهو ما سيأتي في حجة القول بالجواز.
الدليل الثالث: أن قراءة القرآن بالألحان تؤدي إلى أمور ممنوعة فتكون ممنوعةً، وتلك الأمور هي ما يلي:
أولا- أنها تؤدي إلى الزيادة والنقصان في القرآن، لأن التلحين لا يخلو من التمطيط، والتقصير،
والأول يقتضي الزيادة في الحروف، والثاني يقتضي النقصان.
ثانيا- تُشبهه بالغناء الذي هو لهو ولعب وهزْل، وقد نـزه الله I القرآن الكريم من ذلك كله،
فقـال جل من قائل: ﭽ ﮋ ﮌ ﮍ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ([19]).
ثالثا: تؤدي إلى إبهام معانيه على سامعيه، حتى إنه ليُسْمَعُ المُلْحِنُ يقرأ القرآن، فلا ُيدْرَى ما يقول، إلا بعد قراءته آية أو آيتين([20]).
ولا شك أن هذه الأمور ممنوعة، فتكون قراءة القرآن بالألحان ممنوعةً كذلك.
حجة القول بالجواز:
واحتج القائلون بالجواز بالأدلة التالية:
الدليل الأول: عن أبى موسى الأشعري([21])t قال:«استمع رسول الله r قراءتي من الليل،
فلما أصبحت، قال: يا أبا موسى استمعت قراءتك الليلة، لقد أوتيت مزمارا([22]) من مزامير
آل داود. قلت: يا رسول الله لو علمت مكانك لحبرت لك تحبيراً»([23]). قال القاضي ابن
العربي: ((يريد لجعلته لك أنواعاً حساناً، وهو التلحين، مأخوذ من الثوب المحبّر، وهو
المخطّط بالألوان))([24]).
واعتُرض عليه بأن هذا الحديث لا يدل على جواز القراءة بالألحان؛ إذ ليس للألحان فيه ذكر،
والتحبير هو التحسين، ولا يلزم منه تلحين، ولا ترجيع([25]).
الدليل الثاني: ما ثبت عن عبد الله بن مُغَفَّل([26]) t: قال: «رأيت النبي r وهو على ناقة له، يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح، قال: فرجّع فيها …»([27]).
واعتُرض عليه بأن ترجيعه r لم يكن ترجيع تلحين، فإنه r ما كان يعرف الشعر، ولا تلحينه، وغاية ما يُحمَل عليه ترجيعُه أمران:
أحدهما: أن ذلك حدث من تحريك الناقة إياه، فكان ينضغط صوته عند حركتها فينقطع، ثم
يصله من حيث انقطع.
والآخر: أنه r أشبع المد في موضعه فحدث ذلك.
وعلى كلا الاحتمالين فلا حجة فيه([28]).
الدليل الثالث: أن القلوب تخشع بالصوت الحسن، كما تخضع للوجه الحسن، وما تتأثر به
القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر وأقرب إلى لين القلوب وذهاب القسوة منها.
واعترض عليه أبو العباس القرطبي -رحمه الله- بقوله:«لا نسلم أن كل ما استخرج خشوعاً
ورقةً وبكاءً يكون مندوباً إليه ولا مباحًا، فإن ذلك ينتقض بالأوتار وبعض المزامير، والندب في
النياحة، فإنها تستخرج كل ذلك وهي محرمة.
سلّمنا ذلك، لكنها تجر إلى أمور ممنوعة([29]) …وإذا أمكن أن يحصل منها مصلحة
ومفسدة، وليست إحداهما راجحة منع الكل اتقاء للمفسدة، وترجيحاً لجانبها، فينبغي أن
لا يكون التطريب بالقرآن مشروعاً»([30]).
قلت: ويظهر مما سبق أنه يمكن الجمع بين القولينبأن يقال: إن من منع قراءة القرآن
بالألحان والترجيع، أراد الكيفية التي فيها إخراج القرآن عن وضعه بالتمطيط والتقصير، بحيث
يزاد حرف أو ينقص حرف، فإن ذلك حرام إجماعاً([31]). ومن أجاز ذلك أراد الكيفية التي
خلت من ذلك، بل كل ما فيها تحسين الصوت وتطييب القراءة، وذلك أمر مجمع على
استحبابه([32]).
قال ابن حجر-رحمه الله-:«والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم
يكن حسناً فليحسّنه ما استطاع…ومن جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم، فإن
الحسن الصوت يزداد حسناً بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه.
وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن
خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء.
ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعى
الأداء، فإن وجد من يراعيهما معاً، فلا شك في أنه أرجح من غيره؛ لأنه يأتي بالمطلوب من
تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء. والله أعلم»([33]).
وهذا ما جمع به الشافعية قولي الإمام الشافعي -رحمه الله- في المسألة([34]).
و لما أشار إليه -آنفا- الحافظ ابن حجر- رحمه الله- اشترط أهل العلم لجواز القراءة بالألحان أربعة شروط هي:
1- ألا يطغى التلحين على صحة الأداء، ولا على سلامة الأحكام، فإنه متى كان في التلحين إخلال بالأحكام حرم.
2- ألا يتعارض التلحين والتنغيم مع وقار القرآن وجلاله، ومع الخشوع والأدب معه
3- أن يميل عند القراءة بالألحان إلى التحزين، فإنه اللحن المناسب لمقام القرآن.
4- أن يأخذ من الألحان ويستعين بها على قدر حاجته إلى تحسين صوته، وتزيين ترنمه
بالقرآن، دون أن يخرجه ذلك عن الحد المشروع إلى التكلف والتعسف([35]). والله تعالى
أعلم.