شركة الابدان : هي أن يتفق اثنان على أن يتقبلا عملا من الاعمال على أن تكون أجرة هذا العمل بينهما حسب الاتفاق . وكثيرا ما يحدث هذا بين النجارين والحدادين والحمالين والخياطين والصاغة وغيرهم من المحترفين . وتصح هذه الشركة سواء اتحدث حرفتها أم اختلفت " كنجار مع نجار أو نجار مع حداد " . وسواء عملا جميعا أو عمل أحدهما دون الاخر ، منفردين ومجتمعين . وتسمى هذه الشركة بشركة الاعمال أو الابدان أو الصنائع أو التقبل . ودليل جواز هذه الشركة ما رواه أبو عبيدة عن عبد الله قال : " اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر ، قال : فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ " . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه . ويرى الشافعي أن هذه الشركة باطلة ، لان الشركة عنده تختص بالاموال لا بالاعمال . وفي كتاب الروضة الندية كلام حسن في هذا الموضوع نورده فيما يلي : " واعلم أن هذه الاسامي التي وقعت في كتب الفروع لانواع من الشركة : كالمفاوضة ، والعنان ، والوجوه ، والابدان ، لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية ، بل اصطلاحات حادثة متجددة ، ولا مانع للرجلين أن يخلطا ماليهما ويتجرا كما هو معنى المفاوضة المصطلح عليها ، لان للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ما لم يستلزم ذلك التصرف محرما مما ورد الشرع بتحريمه ، وإنما الشأن في اشتراط استواء المالين وكونهما نقدا واشتراط العقد ، فهذا لم يرد ما يدل على اعتباره بل مجرد التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف . وكذلك لا مانع من أن يشترك الرجلان في شراء شئ بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب منه بقدر نصيبه من الثمن ، كما هو معنى شركة العنان اصطلاحا ، وقد كانت هذه الشركة ثابتة في أيام النبوة ودخل فيها جماعة من الصحابة فكانوا يشتركون في شراء شئ من الاشياء ويدفع كل واحد منهم نصيبا من قيمته يتولى الشراء أحدهما أو كلاهما . وأما اشتراط العقد والخلط فلم يرد ما يدل على اعتباره . وكذلك لا بأس أن يوكل أحد الرجلين الاخر أن يستدين له مالا ويتجر فيه ويشتركا في الربح كما هو معنى شركة الوجوه اصطلاحا . ولكن لا وجه لما ذكروه من الشروط . وكذلك لا بأس بأن يوكل أحد الرجلين الاخر في أن يعمل عنه عملا استؤجر عليه كما هو معنى شركة الابدان اصطلاحا . ولا معنى لا شتراط شروط في ذلك . والحاصل أن جميع هذه الانواع يكفي في الدخول فيها مجرد التراضي ، لان ما كان منها من التصرف في الملك فمناطه التراضي ولا يتحتم اعتبار غيره . وما كان منها من باب الوكالة أو الاجارة فيكفي فيه ما يكفي فيهما ، فما هذه الانواع التي نوعوها والشروط التي اشترطوها ؟ وأي دليل عقلي أو نقلي ألجأهم إلى ذلك ؟ فإن الامر أيسر من هذا التهويل والتطويل ، لان حاصل ما يستفاد من شركة : المفاوضة ، والعنان ، والوجوه ، أنه يجوز للرجل أن يشترك هو وآخر في شراء شئ وبيعه
ويكون الربح بينهما على مقدار نصيب كل واحد منهما من الثمن ، وهذا شئ واحد واضح المعنى يفهمه العامي فضلا عن . العالم ، ويفتي بجوازه المقصر فضلا عن الكامل ، وهو أعم من أن يستوي ما يدفعه كل واحد منهما من الثمن أو يختلف ، وأعم من أن يكون المدفوع نقدا أو عرضا ، وأعم من أن يكون ما اتجرا به جميع مال كل واحد منهما أو بعضه ، وأعم من أن يكون المتولي للبيع والشراء أحدهما أو كل واحد منهما . وهب أنهم جعلوا لكل قسم من هذا الاقسام - التي هي في الاصل شئ واحد - اسما يخصه ، فلا مشاحة في الاصطلاحات ، لكن ما معنى اعتبارهم لتلك العبارات ، وتكلفهم لتلك الشروط ، وتطويل المسافة على طالب العلم وإتعابه بتدوين ما لا طائل تحته ؟ وأنت لو سألت حراثا أو بقالا عن : جواز الاشتراك في شراء الشئ وفي ربحه ، لم يصعب عليه أن يقول : نعم . ولو قلت له : هل يجوز العنان أو الوجوه أو الابدان ؟ لحار في فهم معاني هذه الالفاظ . بل قد شاهدنا كثيرا من المتبحرين في علم الفروع يلتبس عليه الكثير من تفاصيل هذه الانواع ويتلعثم إن أراد تمييز بعضها من بعض . اللهم إلا أن يكون قريب عهد بحفظ مختصر من مختصرات الفقه ، فربما يسهل عليه ما يهتدى به إلى ذلك . وليس المجتهد من وسع دائرة الاراء العاطلة عن الدليل ، وقبل كل ما يقف عليه من قال وقيل ، فإن ذلك هو دأب أسراء التقليد ، بل المجتهد من قرر الصواب ، وأبطل الباطل ، وفحص في كل مسألة عن وجوه الدلائل ، ولم يحل بينه وبين الصدع بالحق مخالفة من يخالفه ممن يعظم في صدور المقصرين ، فالحق لا يعرف بالرجال . ولهذا المقصد سلكنا في هذه الابحاث مسالك لا يعرف قدرها إلا من صفى فهمه عن التعصبات ، وأخلص ذهنه عن الاعتقادات المألوفات . والله المستعان "