بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ,, وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد ..
أعضاؤنا الكرام :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
يشرفني أن أقدم في هذه الحلقات عرضًا لجانب مهم من حياة إمامنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطره , وذلك فيما يتعلق بحياته البيتيه مع زوجاته وبناته وأهل بيتـه , وما يروينه مما يقع في بيت النبوة , مع بيان بعض الفوائد و العبر المستفادة من تلك المواقف , وهذا هو المقصود بعرض تلك المواقف , وقد قال الله تعالى :
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (1) . وهذا هو أوان الشروع في المقصود والله الموفق والمعين .
فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ ، ـ وذلك لمايراه من قومه وماهم عليه من عبادة الأوثان والسجودللأصنام والضلال المبين ـ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ . قَالَ « مَا أَنَا بِقَارِئٍ »أي لست ممن يحسن القراءة . قَالَ « فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى ـ أي أنه ضغطه وعصره بقوة ثم أطلقه ـ فَقَالَ اقْرَأْ . قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ اقْرَأْ . فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ . فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) » . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ « زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى » . فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ « لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى » . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : (كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدهر . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ - وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ - فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ » . قَالَ نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِىَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ) . نَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىَّ قَالَ - وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ فَقَالَ - فِى حَدِيثِهِ « بَيْنَا أَنَا أَمْشِى إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِى . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ) إِلَى قَوْلِهِ ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) فَحَمِىَ الْوَحْىُ وَتَتَابَعَ »
هذا الحديث رواه البخاري في كتاب بدء الوحي من صحيحه باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مواضع أخرى من الصحيح .
وتضمن هذا الحديث فوائد وأحكاماً وعبراً كثيرة , وهي ظاهرة لمن تأملها وأشير هنـا إلى بعض منها :
ومن ذلك أن عزلة النبي صلى الله عليه وسلم عن الناس وتعبده بغار حراء كان مقدمة وإرهاصـاً لنبوته , وهكذا ما كان يراه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي . قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السـلام وخطابه لإسماعيل : ( إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) (2)
وتضمن هذا الحديث بيان ما كانت عليه خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها من عقل راجح وإيمان صادق , وحازت رضي الله عنها قصب السبق بإيمانها وتصديقها بالرسول صلى الله عليه وسلم فهي أول من آمن به من الناس , بل إنها كانت تستشرف ذلك الحدث العظيم , فهي التي كانت يتسابق إليها الخُطّـاب لجليل قدرها عند أهل مكة , ومع ذلك فقد اختارت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفت من أمانته وحياءه وتقواه , ولم تزل تتطلع لبوادر وإرهاصات ذلك الشأن العظيم الذي سيبلغه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , حتى كانت هذه الواقعة فاستبشرت الخير وثبتت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت واثقة بالله تعالى والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكَـلّ ( أي تعين الضعيف ) وتكسب المعدوم ( أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك ) وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر) , فاستدلت بهذه الأخلاق الكريمة على حُسن العاقبة من الله ثقةً به تعالى .
ثم عرضت الأمر على ابن عمها ورقة بن نوفل والذي كان عنده علم من الكتاب , فلما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن وصدّق وأخبر بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم , بل وأخبر بسنة الله الماضية من عداء يلقاه الرسل من أقوامهم , وتمنى لو أنه يدرك ذاك الزمان فينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولأجل هذا فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد أنه رآه يلبس ثياباً بيضـاً إشارة إلى أنه من أهل الجنة . رواه أبو يعلى وغيره .(3)
ولما كان ابتداء الوحي غير مألوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من الشدة كما قال تعالى : " {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } (4) .
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجده من الرُحَـضَاء ( أي العرق ) فقد استعظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر واشتد عليه حتى ثبّت الله جنانه بتلك السيدة الجليلة رضي الله عنها وبما أظهر الله له من الآيات والدلائل البينـات أنه رسول رب العالمين .
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّى لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّى لأَعْرِفُهُ الآنَ ». (5)
ثم تتابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بالرسالة أتم قيام وشمّر عن ساق العزم ودعا إلى الله القريب والبعيد والأحرار والعبيد , فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد , واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد .. فجزاه الله خير الجزاء وأوفاه ورزقنا صحبته في جنات النعيم .
وهكذا نجد أن ابتداء نزول القرآن كان في هذا الشهر العظيم شهر رمضان وفي ليلة القدر وفي يوم الاثنين , كما قال الله تعالى : " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ " (6) , وقال سبحانه : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (7) وقال جلّ وعـلآ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) (8)
وأما يوم الاثنين فقد سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الاِثْنَيْنِ فَقَالَ « فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَىَّ ». (9)
" فيه ولدتُ , وفيه أُنزل عليّ " . رواه مسلم في صحيحه .
وكان أول ما نزل عليه من القرآن قوله تعالى : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} الآيات " (10 ) , وبها نُبأ عليه الصلاة والسلام .
ثم نزل عليه " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{1} قُمْ فَأَنذِرْ{2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ{3}... الآيات " (11) , و بها أُرسـل .قال الحافظ الذهبي رحمه الله : ( فكان الوحي الأول للنبوة و الثاني للرسالة ) . وهذا ما قرره الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الأصول الثلاثة
( 12 )
وبهذا تتضح مزية من مزايا هذا الشهر المبارك شهر رمضان , حيث خُصّ بإنزال القرآن فيه , كما تتضح صفحة نيرة من صفحات بيت النبوة وأثر زوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة في دين الإسلام وأسبقيتها في التصديق برسول الله وصبرها وجهادها في سبيل الله , كما سنذكره في ترجمتها في حلقة قادمة بإذن الله تعالى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المراجع :
(1) سورة الأحزاب ( 21 )
(2) لصافات (102)
(3)جاء في مسند بن أبي يعلى عن جابر بن عبد الله قال : سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن أبي طالب هل تنفعه نبوتك ؟ قال : نعم أخرجته من غمرة جهنم الى ضحضاح منها
و سئل عن خد يجة - لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن - فقال : أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب
وسئل عن ورقة بن نوفل قال : أبصرته في بطنان الجنة عليه سندس
(4) المزمل آية ( 5)
(5)صحيح مسلم باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم
(6)سورة البقرة (185 )
(7) سورة القدر (1)
(8)سورة الدخان آية ( 3)
(9)صحيح مسلم( باب اسْتِحْبَابِ صِياَمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ وَالاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ).
(10 ) سورة العلق (1، 2، 3 )
(11) المدثر (1، 2، 3)
(12)جاء في الأصول الثلاثة في( الأصل الثالث ) *الأَصْلُ الثَّالِثُ *
مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ، وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَثَلاثٌ وَعِشْرُون َفى النبوة. نُبِّئَ بـ( اقْرَأ )، وَأُرْسِلَ بـ ( الْمُدَّثِّرْ )، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ).