لم تنته قضية فاطمة، طفلة اللعان، التي أصر والدها على التفريق بينه وبين والدتها عشرة عمره، بل وأم أولاده، حتى ظهرت قضية مي، الطفلة التي باتت بلا هوية هي وإخوانها، لأن والدها طعن في أبوته لها رغم اعترافه بأنه أب لطفلين سابقين.
ليس اسما مي وفاطمة الوحيدين اللذين نقرأهما في الصحف السعودية بل باتت القضايا تتلاحق الواحدة تلو الأخرى في مجال إثبات النسب. فقبل أسابيع كانت «لها» قد نشرت قصة روحية، السيدة غير السعودية التي تزوجت من سعودي، وأسفر زواجها عن طفل معاق. إلا أن الأب تخلى عن مسؤوليته قاذفاً إياها بمعنى أو آخر بالزنا، حين ذهب إلى القاضي وأكد أنه ليس الأب، بل أقسم على الكتاب الكريم مصرّاً على ذلك. ويبدو أن اللعان أصبح ملجأ لأزواج قرروا التنصل من مسؤولياتهم في ظل عدم تقديم الزوج أي براهين على أن هذا الطفل ليس بطفله، أو أن هذه البنت ليست ابنته. لتقف السعودية على أبواب مواجهة مجتمع جديد لا يحمل هوية والده، أي صار هناك أطفال بلا هوية. «لها» تدق ناقوس الخطر معلنة فتحها لملفات إثبات النسب في ظل انعدام الأخذ بتحليل البصمة الوراثية (DNA) في المحاكم السعودية، التزماً للقاعدة الشرعية التي تقر اللعان فقط.
في عسير بجنوب السعودية، وتحديداً في خميس مشيط، تنتظر الطفلة مي رحمة من خالقها، ثم من مسؤولي المنطقة ليأخذوا بيدها هي وشقيقاها اللذين تخلى عنهما والدهما بسببها. والواقع أن مي لا تتعدى الستة أشهر، لديها أخ وأخت أكبر منها، أنكر والدها صلته بها بعد ولادتها، وطالب بإثبات التفريق واللعان، فما كان من الأم إلا الرد عليه بدعوى مقابلة مطالبة القاضي معاقبته بحد القذف، وتحليل DNA.
سنة كاملة وأم مي في المحاكم لتثبت حقها من جانبين، أولهما أنها بريئة من تهمة الزنا التي رماها بها من قبل زوجها حين أصر على أن الطفلة ليست ابنته، ومن جانب آخر حق الطفلة بإثبات النسب.
وفي ظل طول المدة وتخلي الأب عن عائلة كاملة مكونة من ثلاثة أطفال وأم أصبح لدينا عائلة سعودية من أم وأب سعوديين لا تحمل هوية تعريفية بها. لتقبع أسرة تحت رحمة الإحسان، وفاعلي الخير في إعالتهم. ولتواجه مصيراً لا يعلمه إلا الله في وقت لا يمكن للثلاثة الصغار دخول أي مستشفى للعلاج، أو المدرسة للدراسة، أو الاستفادة من الضمان الاجتماعي.
وطالبت الأم المسؤولين باتخاذ الإجراءات اللازمة في البحث عن الزوج، وإلزامه بالتحليل لأنه هو المنفذ الوحيد أمامها، وفي حال عدم قبوله يلزم بنسب الأطفال جميعهم له خصوصاً انه معترف أنه أب شرعي لطفليه السابقين. أما اذا ثبت انها زانية فهي مستعدة لقبول حد الزنا عليهما، أي الرجم حتى الموت...
في جريدة «الرياض» بتاريخ 27 نيسان/ابريل 2008 وفي منطقة الطائف في غرب المملكة، أب يطالب بتحليل DNA لأن زوجته خرجت من بيته إثر خلاف نشب بينهما، إلا أن الأم لم تكن تعلم بأن أحشاءها تضم طفلاً منه. ولم تخبره بعد ذلك خلال التسعة أشهر هي مدة وجودها في بيت ذويها. وبعد الولادة أخبرته بأمر طفله وعرضت عليه طفلين ليختار أياً منهما ولده الذي هو من صلبه.
هذا التصرف من الزوجة قابله طلب الأب اجراء التحليل ليتعرف على أي منهما طفله. إلا أنها ردت بدعوى قذف مما جعل القضية بين الأم والأب، فيما الطفل هو من يدفع الضريبة.
أما جريدة «الوطن» السعودية فنشرت أشهر قضية لعان: فاطمة التي حتى اللحظة لا تزال أوراقها بين دائرة وأخرى لتثبت الأم نسبها.
فاطمة طفلة بلا هوية، لم تسمح لها الحياة بأن تعيش حياتها كسائر أقرانها، بل لتكون مشهورة وذات اسم ذائع الصيت في قضية لم يكن لها يد فيها. فقد قرر والدها قذف أمها بالزنا مدّعياً أن الطفلة ليست ابنته. فكانت صدمة وقعت عليها وكأنما خرت بها الأرض إلى سابعها، ولتقف أمام القاضي في حد اللعان وتصدر المحكمة قرار التفريق بين الأم والأب.
وتبقى والدة فاطمة تحمل عار الزنا الملفق، وترد بقضية تطالب فيها القضاء بحد القذف عليها من الأب الذي لم يكفه ما تعرض له أبناؤه خلال حياته معهم من ضرب وعنف جسدي ونفسي، حتى يأتي بقضية الزنا هذه.
إلا أن والدة فاطمة قررت أن تتنازل عن حقوقها، وعن دعوى القذف مقابل أن يعترف الأب بطفلته، ومع ذلك لم يعترف وتبقى فاطمة تحمل جريمة لم ترتكبها لا هي ولا حتى والدتها. وتطالب الأم بكل قوتها أن يقام عليها حد الزنا (الرجم حتى الموت) اذا أثبت تحليل الحمض أنه ليس بوالدها. ولكن المحكمة تكتفي باللعان والتفريق.
وتدخلت جمعية حقوق الإنسان في القضية لتصل بها إلى المقام السامي. إلا أن فاطمة قضية من عدة قضايا آخذة بالانتشار، وتأخذ عناوينها الصفحات الأولى في الصحف.
المالكي: الاحتكام إلى البصمة الوراثية جائز بطلب من الزوجة
قال المحامي والمستشار القانوني أحمد جمعان المالكي إن الحكم الشرعي في مسألة إثبات النسب يختلف بثبوت العلاقة الزوجية شرعاً، فإن لم تكن هناك علاقة زواج ثابتة شرعاً وفق المعمول به لدى المحاكم السعودية فلا ينظر الى مسألة إثبات النسب للأب مطلقاً ويعتبر الأبناء نتيجة علاقة غير شرعية بل أحياناً ينظر في إصدار عقوبة تعزيزية بحق الأم باعتبارها أنجبت سفاحاً. وإذا أنكر الطرف الآخر يتم اللجوء إلى البصمة الوراثية ليس لإثبات نسب الجنين إليه بل لإيجاد دليل يُعاقب به تعزيزاً كما عوقبت والدة الجنين. أما إذا كانت العلاقة الزوجية ثابتة شرعاً، أو استطاعت المرأة إثباتها فإن الأبناء ينسبون إلى أبيهم مباشرة، وإذا أنكر فليس له إلا اللعان وهو حق مقرر شرعاً للزوج.
وأشار إلى أنه في حالة أقدم الزوج على نفي أبوّته الولد أو اتهام الزوجة، ولم يكن معه شهود، الاحتكام الى البصمة الوراثية جائز، ولا يوجد مانع شرعي من الأخذ به إذا كان الطلب من الزوجة، لأنه يحقق براءتها وطمأنينة الزوج ونسب الولد. أما اذا كان من الزوج فلا يجاب إليه إلاّ اذا وافقت الزوجة لأنه يضيع حقها في الستر الذي يكون باللعان المقرر شرعا بقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ(6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)النور: 6
وأضاف المالكي: «إن القول الأرجح للعلماء يجيز قبول طلب المرأة اللجوء الى البصمة الوراثية لأهميتة في إثبات براءتها من التهمه المنسوبة إليها، وكذلك إثبات نسب ولدها من أبيه، وهذا حق للولد. والشرع يحرص على إثبات الأنساب ما أمكن، بل إن حفظ الأنساب من الضرورات الشرعية الخمس، وكذلك إراحة نفس الزوج، وإزاحة الشك من قلبه، بعد أن يثبت له بالدليل العلمي القطعي أن الولد الذي اتهمها بنفيه منه هو ابنه حقاً. وبذلك يحل اليقين في نفسه محل الشك، والطمأنينة مكان الريبة.وبهذا تستفيد الأطراف الثلاثة».
ولفت الى أن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي وضع ضوابط لمسألة الاستعانة بالبصمة الوراثية وهناك قضاة كثر يأخذون بها.