الحياة .. دار عطاء ٍأم بلاء ..؟
إنها بكل تأكيد دار عطاء! والأدلة على ذلك كثيرة، وهذه بعضها: يقول تعالي: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ (الذاريات)،
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: ".. وقال ابن جريج: إلا ليعرفون"، فهو سبحانه خلقهم لكي يتعرفوا على فضله وكرمه وخيراته وقدراته في الكون، فيستكشفونها وينتفعون بها ويستمتعون بالحلال منها فيسعدون في حياتهم الأولى قبل أن يسعد المُحسنون منهم سعادة خالدة تامة في آخرتهم.
ويقول تعالي: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: من الآية 61)،
جاء في تفسير "المنتخب": "هو خلقكم من الأرض ومّكنكم من عمارتها واستثمار ما فيها والانتفاع بخيرها".
ويقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ (البقرة: من الآية 36)،
قال الإمام الطبري في تفسيره: ".. الله جلَّ ثناؤه جعل حياة كل حيّ ٍمتاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان متاعًا، بقراره عليها واغتذائه بما أخرج الله من الأقوات والثمار والتذاذه بما خلق فيها من المَلاذّ.... وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن يبدلكم بها غيرها (أي جنة الخلد)".
لقد خلق تعالى الخلق ليستمتعوا بمُتع الحياة الحلال لفترة عمرهم، وسخر لهم كل ما فيها ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ (لقمان: من الآية 20 )،
وجعل بني آدم قادة لها ومندوبين وخلفاء عنه سبحانه في قيادتها وتسخير ما فيها والانتفاع به ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: من الآية 30)، ثم بعد انتهاء هذه المرحلة الصغيرة لمتع الدنيا القليلة نسبيًّا ينقله إلى نعيمه وخيره الدائم الخالد الكامل في جنات الخلود في الآخرة.
أما ما يشيع من أنَّ الحياة دار بلاء، فإنه يحتاج إلى بعض تدقيق وتفصيل في معنى البلاء ذاته، إنه َنعَم يعني الاختبار، لكنه اختبار للتصعيد والتكريم والعطاء الدنيوي ثم الأخروي على حسب درجة النجاح، تمامًا كاختبار التحصيل الدراسي من أجل الحصول على الدرجة العلمية والمالية والمهنية والاجتماعية والنفسية وغيرها، وليس مقصود الاختبار أبدًا وقطعًا الإيقاع في الخطأ أو العقاب أو العذاب من الله لخلقه!! تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا!
إنَّ الأدلة على تعريف الابتلاء بهذا التعريف والنظرة إليه بهذا المنظور كثيرة، نذكر منها:
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ (البقرة: من الآية 124)،
قال أبو بكر الجزائري في "أيسر التفاسير": "قام بها خير قيام فأنعم عليه بأكبر إنعام وهو أنه جعله إمامًا للناس".
وقوله تعالي: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا﴾ (الأنفال: من الآية 17)،
قال الإمام ابن عجيبة في "البحر المديد": "ليَختبر المؤمنين منه اختبارًا حسنًا.. لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة..".
وقوله تعالي: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ (طه: من الآية 40)،
قال الإمام ابن عادل في تفسير "اللباب": "كما يُفتَن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه.. بمعنى خلصناك تخليصًا"، أي نقيناك تنقيةً من كل صفةٍ سيئةٍ وصعّدناك تصعيدًا بكل صفة حسنة، بهذه الاختبارات.
إنَّ تعريف "الابتلاء"، و"الفتنة" يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسياق الآيات الكريمات التي يُذكران فيها والأحاديث الشريفة التي تتحدث عنهما، فإن كان السياق يُخاطب المؤمنين فإنهما سيَعنيان الثواب والرفعة والعطاء، لأن خالقهم يُخاطبهم بما يناسبهم ويستحقونه من الحب والرحمة والرفق والكرم، وإن كان السياق عن الكافرين أو الفاسدين فإنهما سيَعنيان حينئذٍ العقاب، كما يقول تعالى مثلاً: ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 163)، والذي قال فيه الإمام السمرقندي في "بحر العلوم": "نختبرهم بما كانوا يعصون الله تعالى".
أما البلاء والفتنة بمعنى اختبارات شَرّيَّة لا خيرية، نفسية أو جسدية أو مالية أو اجتماعية أو كونية أو غيرها ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ (الأنبياء: من الآية 35)،
فإنه يأتي أحيانًا، وعلى فترات وليس دائمًا، ويكون قليلاً أو نادرًا نسبة إلى عظيم النِعَم والعطايا، كما يُفهم من قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155)﴾ (البقرة)
والذي قال فيه الإمام الآلوسي في "روح المعاني": "أي بقليل من ذلك.. وأخبرهم سبحانه قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم.. وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة".
ويكون أيضًا من أجل المصلحة، كما يقول تعالى: ﴿وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 216)، ولفظ "عسى" إذا ُنسِبَ لعظيم وهو الله العظيم فإنه يعني التشويق لانتظار وعدٍ أكيد، كما يقول الإمام أبو حيان في "البحر المحيط": "وقالوا: كل عسى في القرآن للتحقيق، يعنون به الوقوع.."، من أجل المراجعة والتصويب ليخرجوا منه أكثر خبرة وجَلدًا وقوةً وتصميمًا على مزيدٍ من الانطلاق، والاستكشاف، والانتفاع، والسعادة.
بل إنَّ الواقع يُثبت أنَّ كثيرًا من النتائج السيئة والعقوبات تكون من صناعة الإنسان نفسه! من سوء أسبابه! أو حين يستجيب لوساوس ويستسلم لوساوس شيطانه والتي عليه أن يقاومها ويفعل عكسها ليَسعد، كما هو واضح من قوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ (الإسراء: من الآية 7)
وقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ (النساء: من الآية 79)، والذي قال فيه الإمام السعدي في تفسيره: "أي بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر".
إنَّ المسلم حين يفهم هذه المفاهيم السابق ذكرها عن الحياة، فإنه سيُحسِن ولا شك التعامُل معها، وسيُحسِن فهم وتطبيق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ظاهرها التحذير منها، فليس معنى أنها حذَّرت من أنها مثلاً ﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: من الآية 20)، أو أنها ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ (آل عمران: من الآية 197)، أو ما جاء في بعض أقوال الرسول- صلى الله عليه وسلم- أنها "سجن المؤمن" (الترمذي)، أو أنها "حلوة خضرة" (الترمذي)، أو "من كانت الدنيا هَمَّه جعل الله فقره بين عينيه" (الترمذي)، أو "أكثروا من ذكر هاذم اللذات (أي قاطعها وهو الموت)" (البزار)، أو "ما لي وللدنيا؟" (الترمذي)،
ترك الدنيا بالكليّة وعدم الانتفاع بها!!
إنما المعنى والمفهوم والمقصود عدم نسيان أنها مرحلة للمتاع لمدة محدودة، وفترة للتسابق التعاوني التكاملي الشريف النزيه لتحصيل أعلى خيرٍ مُمكِنٍ كتمهيدٍ للخير الكامل والسعادة التامة الخالدة في الآخرة، وهذه هي منظومة الحياة في إطار عدل الله، وهذا هو معناها، انتفاع مبدئيّ ثم نهائيّ تامّ ينبني على قدْرِ ما قدَّم كل إنسان من خير، أو فقدانٍ لذلك وخسرانه بتقديم الشرّ، فلا يَليق بعاقلٍ أن ينشغل بهذه المُقدّمة الدنيوية عن الأصل الأخرويّ وينساه أو يتجاهله! أو أنْ يُضيِّع فترة التحصيل في ربحٍ قليل لا كثير أو في خسارة! وهذا هو بعض ما يُفهم من مثل حديث الرسول-صلى الله عليه وسلم- وما يشبهه: ".. فآثروا ما يبقى على ما يفنى" (جزء من حديث رواه ابن حبان).
فالمسلم ينتفع ويتمتع بكل متع الدنيا الحلال على أكمل وأسعد وجه بتوسّط واعتدال وتوازُن، كما يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية 143)
لأن الإفراط سيؤدي به غالبًا لنتائج عكسية تمنعه من ذلك، وهو ينتفع ويتمتع بالحلال دون الحرام لأن الأول مُفيد مُسعِد والثاني مُضرّ مُتعِس كما يقول تعالي: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ﴾ (الأعراف: من الآية 157)، وهو ينتفع ويتمتع من خلال نظام الإسلام الذي يُنظم كل هذا حيث يسعد بتنظيم عمله وإنتاجه وكسبه وتطوره ونموه وابتكاره واكتشافه وأزواجه وأبنائه وعلاقاته ونحوها، وهو يعلم يقينًا واقعًا أنه مُفارق هذا كله يومًا ما لكن لِمَا هو خير منه، فيزرع بكل انتفاعاته هذه زراعات دائمة ودرجات عُلا فيما وُعِدَ أن يعود إليه في الآخرة على حسب درجة عمله وصدقه فيه، وهو الجنة.
وهذا هو بعض مفهوم قوله تعالي: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾ (القصص: من الآية 77)، والذي قال فيه الإمام البغوي في تفسيره: "اطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة الجنة"، وقال فيه الإمام ابن عاشور في "التحرير والتنوير": "قال مالك: في رأيي معنى ﴿وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾ أن تعيش وتأكل وتشرب غير مُضيَّق عليك".
وهو أيضًا بعض مفهوم قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ (البقرة: من الآية 201)،
والذي قال فيه الإمام ابن حجر في "فتح الباري": "قال عياض: إنما كان صلى الله عليه وسلم يُكثر الدعاء بهذه الآية لجمعها من أمر الدنيا والآخرة"، ومفهوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ".. احرص على ما ينفعك.."
(جزء من حديث رواه مسلم)، والذي جاء فيه في "شرح كتاب التوحيد": "قال الإمام ابن القيّم: سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده".
إنَّ حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- المعروف: "أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.." (رواه الترمذي)، لا يعني أبدًا ومطلقًا أن تتمنى وتطلب أن تكون من المُبتَلين حتى تكون عظيم الدرجات والثواب! لأنه صلى الله عليه وسلم قد نهَى عن ذلك ومنع منه لأنه مُخالِف لأصل الحياة وهو السعادة حيث قال: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا" وشَرَحَه الإمام النووي بقوله: "كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية وهي من الألفاظ العامة لدفع جميع المكروهات..".
كذلك لا يعني الحديث أبدًا أنَّ السعيد بأخلاق الإسلام في الحياة سيكون في أدنى درجات الجنة لأنه قد أخذ حظه في الدنيا! لأن الله تعالى يقول: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ (الأحقاف: من الآية 20)! إنها خطاب للكافرين الغافلين لا المؤمنين الخيِّرين! كما يؤكده افتتاح الآية ذاته: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ﴾،
وكما قال الإمام الرازي في تفسيرها: "هذه الآية لا تدل على المنع من التنعّم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبَّخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولم يؤدِّ شكر المُنعِم بطاعته والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المُنعِم فلا يُوَبَّخ بتنعّمه، والدليل عليه قوله تعالى ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: من الآية 32)"...
بل المسلم سيكون في أعلى عليين بإذن الله إذا أحسن الجمع بين دنياه وآخرته كما سبق وأوضحنا.
إنَّ الحديث يعني إذا جاء البلاء فكن مستعدًا وتذكر أنك لو صبرتَ ونجحتَ فإنك ستكون في مصَافِّ ِالنبيين والمِثالِييّن، ليُعينك ذلك على اجتياز الأمر والاستفادة منه، وهذا يؤكده لفظ "بشيء" في الآية الكريمة السابق ذكرها ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ﴾ ولفظ "إذا" في قوله تعالي: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)﴾ (البقرة)، والذي قال فيه الإمام البيضاوي في تفسيره: ".. فيهون على نفسه..".
فكن أيها الداعي إلى الله والإسلام مِمّن يُحسنون فهم معنى الحياة حتى تُحسن التعامُل معها فتسعد فيها أنت أولاً، ثم تُحسن عرض معناها لغيرك مِمّن يجهلونها أو يفهمونها بغير مفهومها الصحيح ليسعدوا هم أيضًا، وتسعد الأرض كلها حينما تجعل الإسلام مرجعيتها لتنظيمها، فيتحقق مُراد الله تعالى من خلقها، إسعاد كل الخلق.. وتنالوا جميعًا أعظم الثواب.
كتبه / د. محمد محمود منصور