لحوم البشر اشهى ماكولات العصر
عبد الرحمن جمال المراكبي
لا تطيب مجالس الناس اليومَ إلا بتناول وجبةٍ دسمة من لحم أحد المسلمين، ينهش الجالسون في لحم هذا الشخص، كلٌّ منهم يتناول قطعةً منه، فلا يشبعون ولا يملُّون من تَكرار تناولها كُلَّما اجتمعوا، حتَّى أصبحت رائحة الغِيبة المنتنة تفوح من المجالس.
فإلى مَن أدمنوا أكل لحوم البشر أقول: إنَّ الغيبة مرض خطير، وداء فتاك، وسلوك يُفرق بين الأحباب، وقد نهانا الله - تعالى - عن الغيبة؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].
والغيبة كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه))، قيل: يا رسول الله، إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه))[1]، وما يكرهه الإنسان يتناول خَلْقَه وخُلُقه ونسبه، وكل ما يخصه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: حسبك من صفية كذا وكذا – تعني: أنَّها قصيرة - فقال النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماءِ البحر لمزجته))؛ أي: خالطته مُخالطة يتغيَّر بها طعمه أو ريحه؛ لشدَّة قبحها.
والغيبة من كبائرِ الذُّنوب، وهي مُحرمة بإجماع المسلمين؛ فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه))[2].
وعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ مِن أرْبَى الرِّبا الاسْتِطالَةَ في عِرْضِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقّ)).[3]
والقائل والمستمع للغيبة سواء؛ قال عتبة بن أبي سفيان لابنه عمرو: "يا بني، نزِّه نفسك عن الخنا، كما تُنَزِّه لسانك عن البذا؛ فإنَّ المستمع شريك القائل".
لذلك لا تعجب حين تَجد القرآن الكريم يصوِّر الغيبة في صورة مُنفرة، تتقزز منها النفوس، وتنبو عنها الأذواق؛ قال تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، فشبَّه أكل لحمه ميتًا المكروه للنُّفُوس غاية الكراهة باغتيابه، فكما أنَّ الناس يكرهون أكلَ لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا، فكذلك فليكرهوا غيبته، وأكل لحمه حيًّا؛ قال السعدي - رحمه الله -: "وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأنَّ الغيبة من الكبائر؛ لأنَّ الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر". اهـ.[4]
فمثل المغتاب كمثل الكلب، فالكلبُ هو الحيوان الوحيد الذي يأكلُ لحمَ أخيه بعد موته.
والمغتاب يُعذب في قبره بأن يخمش وجهه بأظفاره، حتَّى يسيل منه الدَّم، ففي ليلة المعراج مرَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: ((من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).[5]
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "عليكم بذكر الله؛ فإنَّه شفاء، وإيَّاكم وذكرَ الناس فإنه داء".
وقال الحسن البصري - رحمه اللَّه -: "والله، للغيبة أسرع في دين الرَّجل من الأكِلَةِ في الجسد".
وعن الحسن البصري - رحمه اللَّه - أنَّ رجلاً قال له: إنَّك تغتابني فقال: ما بلغَ قدرُك عندي أنْ أحكِّمَكَ في حسناتي.
وقال ابن المبارك - رحمه اللَّه -: "لو كنتُ مُغتابًا أحدًا، لاغتبتُ والديَّ؛ لأنَّهما أحقُّ بحسناتي".
حصائد اللسان هلاك الإنسان:
مما لا شكَّ فيه أن اللسان هو الذي يقود إلى هذه العظائم من الآثام والذُّنوب؛ فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ، وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ، قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ - ثُمَّ قَالَ -: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ))، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]، حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ}، ثُمَّ قَالَ: ((أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟))، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((رَأْسُ الأَمْرِ وَعَمُودُهُ: الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ: الْجِهَادُ))، ثُمَّ قَالَ: ((أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟))، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا نَبِىَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ، فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)).[6]
وحصائدُ اللسان: أقواله المحرمة، وهي أنواع كثيرة، فمنها ما يُوصل إلى الكفر، ومنها دون ذلك، فالاستهزاء بالله ودينه، وكتابه ورسله وآياته، وعباده الصالحين فيما فعلوا من عبادة ربِّهم، كلُّ هذا كُفر بالله، ومخرج عن الإيمان، وهو من حصائد اللِّسان، والكذب والغيبة والنميمة، والفحش والسب واللعن، كُلُّ هذا من حصائد اللسان؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله ليبغض الفاحش البذيء)).[7]
قال الحافظ ابن رجب: "والمرادُ بحصائد الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته، فإنَّ الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثُمَّ يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيرًا من قولٍ أو عملٍ، حَصَد الكرامة، ومن زرع شرًّا من قولٍ أو فعل، حَصَد النَّدامة، وهذا يدلُّ على أنَّ كف اللسان وضبطه وحبسَه هو أصل الخير كلِّه، وأنَّ من ملك لسانه، قد ملك أمره وأحكمه وضبطه". اهـ.
وجاء عند الطبراني وحسنه الألباني عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليك بطول الصَّمت، إلاَّ مِن خير؛ فإنَّه مَطردة للشيطان عنك، وعون لك على أمر دينك)).يَجبُ على كل مسلم أنْ يصونَ لسانه ويحفظه، وألاَّ يطلق له العنان، فلا يسمح لنفسه أن يتكلم بغير ما هو حق وخير ومعروف، وأن يكفَّ لسانه عما هو باطل وشر ومنكر؛ قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت))[8].
قال النَّووي في "الأذكار": فهذا الحديث المتفق على صحته نصٌّ صريح في أنَّه لا ينبغي أن يتكلم إلاَّ إذا كان الكلامُ خيرًا، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شكَّ في ظهور المصلحة، فلا يتكلم؛ قال الإِمام الشافعي - رحمه اللَّه -: إذا أراد الكلام، فعليه أنْ يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة، تكلَّم، وإن شكَّ لم يتكلم حتى تظهر. اهـ.
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ اللّه، ما النجاة؟ قال: ((أمْسِكْ عَلَيْكَ لِسانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ على خَطِيئَتِكَ))، وعن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَنْ يَضْمَنْ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ وَما بينَ رِجْلَيْهِ، أضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ))[9].
فالمؤمنُ الصادق الإيمان بالله ولقائه لا يتكلم إلاَّ إذا كان الكلام خيرًا، أمَّا إذا كان الكلام شرًّا فلا يتكلم؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ العبدَ ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم))[10].
وقد سُئل - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال: ((مَن سَلِمَ المُسلمون من لسانه ويده))[11]؛ وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنَّة لا يأمن جاره بوائقه)).[12]
وقد أخذ ابنُ عباس بلسانه، وقال له: "اسكت تغنم، واسكت عن سوءٍ تسلم، وإلاَّ فاعلم أنك ستندم"، وفي رواية عن أبي وائلٍ: أن عبدالله - رضي الله عنه - ارتقى الصَّفا، فأخذَ بلسانِه فقال: "يا لسانُ، قُلْ خيرًا تَغْنَمْ، واسْكُتْ عن شرٍّ تسْلَم، مِن قَبْلِ أنْ تَنْدَمَ"، ثُمَّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((أكثرُ خطايا ابنِ آدَم في لسانه)).[13]
وكان ابنُ مسعود يقول: "والله الذي لا إله إلا هو، لا يوجد في هذا الكون شيء أحق بطول حبس من لسان".
وقال الإِمامُ الشافعيُّ - رحمه اللَّه - لصاحبه الرَّبِيع: "يا ربيعُ، لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة، ملكتكَ ولم تملكها".
لذلك ما من يوم تصبح الأعضاء إلاَّ وهي تُخاطب اللسان، وتقول له: "اتقِّ الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
قال ابنُ القيم - رحمه الله -: "ومن العجب أنَّ الإنسانَ يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزِّنا، والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتَّى ترى الرجل يُشار إليه بالدِّين والزُّهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخطِ الله لا يلقي لها بالاً، يزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجلٍ مُتورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول". اهـ.[14].
احْفَظْ لَسَانَكَ أيُّهَا الإِنْسَانُ *** لاَ يَلْدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعْبَانُ
كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ لِسَانِهِ *** قَدْ كَانَ هَابَ لِقَاءَهُ الشُّجْعَانُ
كفارة الغِيبة:
الغيبة من الكبائر، وليس لها كفارة إلاَّ التوبة النصوح، وهي من حقوق الآدميين، فلا تصح التوبة منها إلاَّ بأربعة شروط، هي:
1 - الإقلاع عنها في الحال.
2 - الندم على ما مضى منك.
3 - العزم على ألاَّ تعود.
4 - استسماح من اغتبته إجمالاً أو تفصيلاً، وإن لم تستطع، أو كان قد مات أو غاب، تكثر له من الدعاء والاستغفار.
هل يجب على صاحب الحق أن يُسامح؟
لا يَجب عليه ذلك، ولكن يُستحب له، فإنْ شاءَ سامح، وإن شاء لم يُسامح. وكان بعض السَّلف لا يُحلل أحدًا اغتابه.
قال سعيد بن المسيب - رحمه الله -: "لا أحلل من ظلمني".
وقال ابن سيرين - رحمه الله -: "إنِّي لم أحرمها عليه، فأحللها له، إنَّ اللهَ حرم الغيبة عليه، وما كنت لأحلل ما حرَّم الله أبدًا".
ولا شكَّ أنَّ العفو أفضلُ، فهو سبيل المحسنين، فكن كبيرًا وانس الماضي، فالحياة أقصر من أن ندنسها بالحقد والضَّغينة.
قال النووي في "الأذكار": يُستحبُّ لصاحب الغِيبة أن يبرئه منها، ولا يجبُ عليه ذلك؛ لأنه تبرُّعٌ وإسقاطُ حقٍّ، فكان إلى خِيرته؛ ولكن يُستحبُّ له استحبابًا متأكدًا الإِبراء؛ ليُخلِّصَ أخاه المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوزَ هو بعظيم ثواب اللَّه - تعالى - في العفو ومَحبة اللَّه - سبحانه وتعالى - قال اللَّه - تعالى -: {وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهِ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، وقال تعالى: {وَلمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِن ذلكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ} [الشورى: 43]. اهـ.[15]
قِيلَ لِي قَدْ أَسَاءَ فِيكَ فُلانٌ *** ومُقَامُ الْفَتَى عَلَى الذُّلِّ عَارُ
قُلْتُ قَدْ جَاءَنَا وَأَحْدَثَ عُذْرًا *** دِيَةُ الذَّنْبِ عِنْدَنَا الاعْتَذَارُ
أسباب الغيبة وبواعثها:
قال الغزالي - رحمه الله -: للغيبة أسباب وبواعث، وفيما يلي خُلاصتها[16]:
- شفاء المغتاب غَيظَهُ بذكر مساوئ مَن يغتابه.
- مجاملة الأقران والرِّفاق، ومُشاركتهم فيما يَخوضون فيه من الغيبة.
- ظن المغتاب في غيره ظنًّا سيئًا مدعاة إلى الغيبة.
- أن يبرئ المغتاب نفسَه من شيء، وينسبه إلى غيره، أو يذكر غيره بأنَّه مُشارك له.
- رفع النَّفس وتزكيتها بتنقيص الغَيْر.
- حسد من يثني عليه النَّاس ويذكرونه بخير.
- الاستهزاء والسخرية وتحقير الآخرين.
الحالات التي تجوز فيها الغيبة:
هناك صُور استثناها علماء الإسلام من الغيبة، ويَجب الاقتصار في هذا الاستثناء على الضرورة، ولا إثم في ذلك، وأكثرُ هذه الأسباب مُجمع على جواز الغيبة بها.
قال النووي: اعلم أنَّ الغيبةَ وإن كانت محرمة، فإنَّها تباحُ في أحوال للمصلحة؛ وعدَّد هذه الأسباب:
أولاً: التظلُّم؛ أي: إنَّه يجوزُ للمتظلم أنْ يقولَ: فَعَل بي فلان كذا وكذا لمن يتظلم إليه.
ثانيًا: يجوز في حالة الاستعانة في تغيير المنكر وردِّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعملُ كذا فازجرْه عنه.
ثالثًا: الاستفتاء؛ بمعنى: أنْ يذهبَ المستفتي إلى المفتي، فيقول: لقد ظلمني فلان بكذا أو كذا، فماذا أفعلْ لرد الظُّلم عن نفسي، والأسلم التعريض بأنْ يقولَ: ما قولك في رجل ظلمه أخوه، وإن كان التعيين مُباحًا بقدر الحاجة، والدليل على ذلك: أنَّ هند زوجة أبي سفيان شكَت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ سفيان رجل شحيح لا يعطيها ما يَكفيها وولدها، فهل تأخذ منه بغير علمه، فأذن لها النبيُّ أن تأخذ بالمعروف، فلأن النبيَّ لم يزجرْها لا يُعدُّ ذلك غِيبة.
رابعًا: تحذير المسلمين من الوقوع في أيِّ شر، كأن يقول فلان مبتدع، وذلك للنصح، وكذلك جرح المجروحين من الرُّواة للحديث، وكذلك المشاورة في مصاهرة إنسان أو مُحاورته.
خامسًا: تجوز غيبة الفاسق الذي شهر بفسقه، كالمجاهر بشرب الخمر؛ قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "ليس لفاجر حُرمة"؛ وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر.
وقال الصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاسق المعلن بفجوره، ذكري له بما فيه غيبة؟ قال الحسن: لا، ولا كرامة.
سادسًا: التعريف، فإذا كان معروفًا بلقب؛ كالأعمش والأعرج ونحوها، جاز تعريفه بها، ويحرم ذكره بها تنقصًا، ولو أمكنَ التعريفُ بغيره كان أَوْلى؛ ولذلك يقال للأعمى: البصير؛ عدولاً عن اسم النقص. اهـ[17].