افتراضي ذكر حفر زمزم وما جرى من الخلف فيها
ذكر حفر زمزم وما جرى من الخلف فيها
الرؤيا التي أريها عبد المطلب في حفر زمزم
قال ابن إسحاق : وكان أول ما ابتُدئ به عبد المطلب من سفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله بن زُرَيْر الغَافِقِي : أنه سمع علي بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه يحدِّث حديثَ زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، قال : قال عبد المطلب : إني لنائم في الحِجْر إذا أتانى آتٍ فقال : احفر طيبة . قال : قلت : وما طيبة؟ قال : ثم ذهب عني . فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال : احفر بَرَّة. قال : وما بَرَّة ؟ قال : ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال : احفر المضنونة . قال : فقلت : وما المضنونة ؟ قال : ثم ذهب عني ، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي ، فنمت فيه ، فجاءنيِ فقال : احفر زَمْزَمَ . قال : قلت : وما زمزم ؟ قال لا تَنْزِفُ أبداً ولا تُذمُّ ، تسقى الحجيج الأعظم ، وهى بين الفَرْث والدم ، عند نُقْرة الغراب الأعْصم ، عند قرية النمل .
عبد المطلب وابنه الحارث وما كان بينهما وبين قريش عند حفرهما زمزم
قال ابن إسحاق :فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صُدِّقَ ، غدا بمعْوَله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب ، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فيها فلما بدا لعبد المطلب الطي ، كَبَّر. فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته ، فقاموا إليه ، فقالوا : يا عبد المطلب ، إنها بئر أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها حقّاً، فأشركنا معك فيها. قال : ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خُصصتُ به دونَكم ، وأعطيته من بينكم ، فقالوا له : فأنصفنا، فإنا غيرُ تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمْكم إليه ، قالوا: كاهنة بني سعد هُذيْم ، قال . نعم ، قال : وكانت بأشراف الشام ، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف ، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال : والأرض إذ ذاك مفاوز. قال : فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام ، فَنِيَ ماء عبد المطلب وأصحابه ، فظمِئُوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقَوْا من معهم من قبائل قريش، فأبَوْا عليهم ، وقالوا : إنَّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم ، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم ، وما يتخوَّف على نفسه وأصحابه ، قال : ماذا تَرَوْن ؟ قالوا ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت ، قال : فإنيّ أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة – فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ، ثم واروه – حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضَيْعَةُ رجل واحد أيسر من ضَيْعة رَكْب جميعا قالوا : نِعْم ما أمرت به فقام كل واحد منهم فحفر حفرته ، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا ً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه : والله إن إلقاءَنا بأيدينا هكذا للموت ، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحِلوا، فارتحَلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون ، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب ، فكبَّر عبد المطلب وكبَّر أصحابه ، ثم نزل فشرِب ، وشرب أصحابه ، واستَقَوْا حتى ملئوا أسقيَتهم ، ثم دعا القبائل من قريش، فقال : هلُمّ إلى الماء ، فقد سقانا الله ، فاشربوا واستقوا. فجاءوا فشربوا واستقوا ، ثم قالوا : قد – والله – قضى لك علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفَلاة لهو الذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً. فرجع ورجعوا معه ، ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلَّوْا بينه وبينها .
قال ابن إسحاق : فهذا الذي بلغني من حديث على بن أبي طالب رضى الله عنه في زمزم .
وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم :
ثم ادعُ بالماء الرَّوِيِّ غيرِ الكَدِرْ يسقي حجيجَ الله في كل مَبَرْ
ليس يُخافُ منه شيء ما عَمَر
فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش ، فقال : تعلَّموا أني قد أمرت أن أحفر لكم زمزم ، فقالوا : فهل بُيِّن لك أين هي ؟ قال : لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت ؟ فإن يك حقا من الله يُبيَّن لك ، وإن يكن من الشيطان فلن يعودَ إليك . فرجع عبد المطلب إلى مضجعه ، فنام فيه ، فأتي فقيل له : احفر زمزم ، إنك إن حفرتها لم تندمْ ، وهى تراث من أبيك الأعظم ، لا تنزِف أبداً ولا تُذَم ، تسقي الحجيجَ الأعظم ، مثل نعام جافل لم يُقْسَم ، ينذر فيها ناذر لمنعم ، تكون ميراثا وعَقْداً مُحْكَم ، ليست كبعضِ ما قد تعلم ، وهي بين الفَرْثِ والدم .
قال ابن هشام : هذا الكلام ، والكلام الذي قبله ، من حديث عَلي(رضوان الله عليه) في حفر زمزم من قوله : " لا تنزف أبدا ولا تُذَم " إلى قوله : " عند قرية النمل " عندنا سجع وليس شعراً.
قال ابن إسحاق : فزعموا أنه - حين قيل له ذلك - قال : وأين هي ؟ قيل له: عند قرية النمل ، حيث ينقر الغرابُ غداً. والله أعلم أي ذلك كان .
فعدا عبد المطلب ومعه ابنهُ الحارث ، وليس له يومئذ ولد غيره ، فوجد قريةَ النمل ووجد الغرابَ ينقر عندها بين الوثنين :إساف ونائلة، اللذيْن كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها فجاء بالمِعْوَل وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش حين رأوا جِدَّه ، فقالوا : والله لا نتركك تحفر بين وثَنَيْنا هذين اللَّذيْن ننحر عندهما، فقال عبد المطلب لابنه الحارث : ذُدْ عني حتى أحفر، فوالله لأمضينَّ لما أمرت به ، فلما عرفوا أنه غيرُ نازع خَلَّوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه ، فلم يحفر إلا يسيرا. حتى بدا له الطي ، فكبر وعَرِف أنه قد صُدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزاليْن من ذهب ، وهما الغزالان اللَّذان دَفنت جُرْهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قَلْعية وأدراعا فقالت له قريش : يا عبد المطلب ، لنا معك في هذا شِرْك وحقّ ، قال : لا، ولكن هَلُمّ إلى أمر نَصَفٍ بيني وبينكم ، نضرب عليها بالقِداح ، قالوا : وكيف تصنع ؟ قال : أجعل للكعبة قِدْحَيْن ، ولى قِدْحَيْن ولكم قِدْحَيْن فمن خرج له قِدْحاه على شئ كان له ، ومن تخلَّف قدحاه فلا شيء له قالوا : أنصَفْت ، فجعل قِدْحين أصفرين للكَعبة، وقِدْحَيْن أسودين لعبد المطلب ، وقِدْحَيْن أبيضين لقريش ، ثم أعطوا القداحَ صاحبَ القداحِ الذي يُضرب بها عند هُبل – وهُبل : صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم ، وهو الذي يعنى أبو سفيان بن حرب يوم أحد حين قال : أعْلِ هُبَل أي أظهرْ دينك - وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ، فضرب صاحب القداح ؛ فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة ، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب ، وتخلف قدحا قريش ؛ فضرب عبدُ المطلب الأسياف باباً للكعبة ، وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حُليته الكعبة ، فيما يزعمون ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج .