الشاه ولي الله الدهلوي
(1114-1176)
علّامة الهند، بل عالم عصره ومحدّثه، والمجتهد المسند المصنّف، أبو محمد، الشاه أحمد ولي الله بن عبد الرحيم العمري الدِّهْلَوي
[1].
ونسبُه الكامل: هو أحمد ولي الله بن عبد الرحيم بن وجيه الدين الشهيد بن معظم بن منصور بن أحمد بن محمود بن قوام الدين المعروف بقاضي قاذن بن القاضي قاسم بن القاضي كبير بن عبدالملك بن قطب الدين بن كمال الدين بن المفتي شمس الدين بن شير ملك بن محمد عطا ملك بن أبي الفتح ملك بن عمر حاكم ملك بن عادل ملك بن فاروق بن جرجس بن أحمد بن محمد شهريار بن عثمان بن ماهان بن همايون بن قريش بن سليمان بن عفان بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب.
وأم جدّه وجيه الدين حسينية النسب.
وُلد المترجم في بَهلْت (فَلْت) يوم الأربعاء لأربع عشرة خلون من شوال سنة أربع عشرة ومائة وألف في أيام عالمكير، من أسرة علمية وجيهة، ونشأ في دهلي، وبكّر في الطلب وهو ابن خمس، وحفظ القرآن ابن سبع، وأخذ العلوم عن والده الشيخ عبد الرحيم، وقرأ عليه الرسائل المختصرة بالفارسية والعربية، وشرع في شرح الكافية للعارف الجامي وهو ابن عشر سنين، وتزوج وهو ابن أربع عشرة سنة، وقرأ تفسير البيضاوي، وأجيز بالدرس وفرغ من التحصيل وهو في الخامس عشر من سنه، وتوفي أبوه سنة 1131 والمترجم في السابعة عشر.
واشتغل بالدرس مدة اثني عشر عاماً، وفتح الله عليه في العلم، وتوسع ودرس المذاهب الأخرى.
ثم رحل للحج والمجاورة في الحرمين، وغادر دهلي ثامن ربيع الثاني سنة 1143، ومعه خاله الشيخ عبيد الله البارهوي الفلتي، وابنه محمد عاشق، وغيرهما من أصحابه، فأقام بالحرمين عامين كاملين، وقرأ على علمائهما، واستفاد منهم، وطالع كتباً كثيرة، منها كتب الحديث، وآثار شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم عاد لبلاده محملاً بزاد كبير، وصقلت علومه، واتسعت مداركه، ورجع إلى دهلي في رابع عشر رجب سنة 1145.
ورجع للتدريس في المدرسة الرحيمية، وكانت أول مدرسة تهتم بتدريس الحديث هناك، واشتهر أمره، وكثرت تلاميذه، وارتحلوا إليه من أنحاء الهند وخارجها، وضاقت بهم المدرسة، فمنحه الملك محمد شاه مدرسة أوسع داخل دهلي، فانتقل إليها، وهي دار العلوم.
وبورك له في جهوده، ونشر العلم والإرشاد والتصنيف إلى أن توفي، وانتشر به العلم والحديث والاهتمام بهما في دياره، وجدد معالم الإسلام هناك، ورزقه الله بذريته طيبة أكملت المسيرة من بعده
[2].
وكان من عادته أن يقرأ مقرئه عليه كل يوم ركوعاً من القرآن وهو يفسّره، وكان آخر دروس الشيخ ولي الله المذكور: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، ومن هناك شرع ابنه عبد العزيز، وآخر دروسه كان: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، ومن هناك شرع سبطه إسحاق بن أفضل، كما في مقالات الطريقة.
أبرز شيوخه:
1- والده الشيخ عبد الرحيم: قال المترجم آخر رسالته القول الجميل
(ق30/أ طوكيو):
«وأما العلوم الظاهرة من التفسير والحديث والفقه والعقائد والنحو والصرف والكلام والأصول والمنطق: فقد تعلمنا من سيدي الوالد رضي الله عنه»، وتقدم بعض ما أخذ عنه، وقال في إتحاف النبيه
(74): «قرأت على والدي المكرم جميع مشكاة المصابيح إلا فوتاً ما بين كتاب النكاح وكتاب الأدب
[3]، فقد حصل ذلك لي بالإجازة، وسمعت عليه أيضاً شمائل النبي صلى الله عليه وسلم بتمامه، وصحيح البخاري إلى كتاب الطهارة أو أقل منه أو أكثر، وأعطاني إجازة الباقي». وقال
(ص281-282): «وأما مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله فعرفته بقراءة الهداية جميعها بحثا ودراية على سيدي الوالد عبد الرحيم إلا أفواتاً يسيرة من كتاب الكفالة والوكالة وما بينهما، وبقراءة قطعة كبيرة من شرح الوقاية لصدر الشريعة، وقطعة من التوضيح والتلويح، وقطعة كبيرة من الكنز لأبي البركات النسفي، وكتاب الحسامي في أصول الفقه من أوله إلى آخره على سيدي الوالد». ونقل العطار من إجازةٍ له من مقروءاته على والده: من المنطق شرح الشمسية وقسطاً من شرح المطالع، ومن الكلام غالب شرح العقائد وجملة من الخيالي وشرح المواقف، ومن التصوف قطعة من العوارف، ومن الطب موجز القانون، ومن الحكمة شرح هداية الحكمة، ومن المعاني المختصر والمطول، وبعض الرسائل في الهيئة والحساب، إلى غير ذلك.
2- محمد أفضل السيالكوتي: المحدّث في دهلي، كان يختلف أثناء الدراسة على والده، فانتفع به في الحديث، وحصل على إجازته كما في العجالة النافعة
(68)، بل قال المترجم آخر القول الجميل
(30/أ): «وأجاز في مشكاة المصابيح وصحيح البخاري وغيره من الصحاح الست: الثقة الثبت حاجي محمد أفضل»، وقال في التفهيمات الإلهية
(2/238):
«أجازني الثقة الثبت الحاج محمد أفضل.. لمشكاة المصابيح، وصحيح البخاري وغيره من الكتب الستة»، ونص الترهتي في اليانع الجني
(80) أنه أجازه إجازة عامة برواية الحديث
[4].
3- أبو طاهر محمد بن إبراهيم الكردي المدني: هو عمدته في الراوية وعلم الحديث، قال في إتحاف النبيه
(81): «وقد صحب هذا الفقير مدةً الشيخ أبا طاهر، أخذ عنه صحيح البخاري بتمامه حرفاً حرفاً
[5]، وبحثت معه مشكلات هذا الفن، وعرف طريقة تتبع كتب الرجال وشرح الغريب، ومَهَر في البحث عن رجال الأسانيد من هذه الطبقة إلى طبقة المؤلفين، ثم منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وميّز الصحيح من السقيم، وحفظ قواعد الرواية والتحديث، واطّلع على المتابعات والشواهد، وكذا سمع عليه مسند الدارمي بتمامه، وعرض عليه أطراف الكتب الستة وغيرها، وأجازني برواية هذه الكتب وجميع مروياته ، وأطلعني على مروياته وأسانيده بأحسن طريق، وألبسني الخرقة، فجزاه الله سبحانه عني خيراً»، وقال في الإرشاد
(خ): «أخذت معظم هذا الفن عن أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكردي
[المدني] أعظم الله أجوره، فسمعت عليه الأمم، واستنسخناه من خطه، وضبطنا مشكله من خطه بحضرته، وناولني كتاب مقاليد الأسانيد، فطالعته وراجعته فيما أشكل من الفن، ورويت عنه صحيح البخاري من أوله إلى آخره، كنت أقرأ عليه وهو يسمع، وإذا مللت كان هو يقرأ وأنا أسمع».
وقال فيه:
«وأما الكردي فأخبرني بجميع ما في الأمم تأليفه سماعا عليه أبو طاهر، بقراءته على أبيه المذكور». وقال في الإتحاف
(75-76): «ثم لما تشرف الفقير بزيارة المدينة المنورة أخذ صحيح البخاري بتمامه عن الشيخ أبي طاهر المدني، بعضه بالقراءة عليه وبعضه بالسماع منه، وكذا سمعت منه مسند الدارمي في اثني عشر مجلساً بمواجهة قبر النبي صلى الله عليه وسلم في الزيادة العثمانية، وسمعت منه أيضاً كتاب الأَمَم بتمامه، وأطراف باقي الكتب الستة ومسند الإمام أحمد وكتاب الأم للإمام الشافعي، وقرأتُ عليه الموطأ» يعني طرفه، كما بيّن في الإتحاف
(ص264)، ونصّ أبو طاهر في إجازته له
[6] (ساق جلّها في الإتحاف 82-90): أنه تلقى مع ابن خالته عليه البخاري قراءة وسماعاً لجميعه بلا فوت
(والختم عصر الأحد 22 رجب 1144)، وطرفاً من مسلم، والترمذي، وأبي داود، وابن ماجه، ومسند أحمد، والرسالة للشافعي، والجامع الكبير،
(وهذه الأطراف يوم الخميس 26 رجب 1144)، والأدب المفرد، والشفا، وجميع مسند الدارمي، وجميع الأَمَم مع التذييل، ومسلسلات: الصف، والمحبة، والمصافحة، والأولية الإضافية
(وهذا يوم الجمعة 27 جمادى الثانية سنة 1144).
وذكر المترجم في الإتحاف (ص191) أنه قرأ عليه أيضا أحاديث من مشكاة المصابيح، ومثل ذلك (ص279) من جامع المسانيد للخوارزمي، وروى عنه (ص200) مسلسل الفقهاء بلفظ الإخبار، وكذلك (ص208) مسلسل الصوفية.
ويظهر أنه قرأ عليه في نوادر الأصول كما يستفاد في الفضل المبين (ص78)، ونص فيه (ص122) أنه ناوله رسالة المسلسلات لأبيه، ولا يظهر فيها أنه سمعها منه. وفي الحديثين الملحقين بالفضل المبين (ص137) أنه أخذ عن أبي طاهر مسلسل الضيافة بالأسودين.
ولتأثره به قال الشاه عبد العزيز في الملفوظات (93 كما في ترجمة السيالكوتي 35): «كان والدي حين أراد الرجوع من المدينة قال لشيخه: قد نسيت كل شيء كنت تعلمته غير علم الدين. يعني علم الحديث. فسُرّ به الشيخ كثيراً».
وقال الترهتي في اليانع الجني (81) إنه عمدته من بين مشايخه وأكثرهم له نفعا.
4- عمر بن بن أحمد بن عقيل السقاف، سبط عبد الله البصري: ذكر في الإتحاف
(76) أنه سمع عليه أطراف الستة وغيرها، وأجازه عامة، وذكر
(ص195) أنه حدثه من لفظه بالأولية مطلقة، وذكر
(266) أنه قرأ عليه طرفاً من أول شرح السنة للبغوي وأجاز سائره، بقراءته طرفاً منه وإجازته سائره من جده لأمه البصري
[7]، وذكر
(ص267) أنه قرأ عليه أول السنن الكبرى للبيهقي، وكذلك
(ص268) قرأ عليه طرفاً من مسند الشافعي.
وروى عنه في الدر الثمين (رقم 35) مسلسل المشابكة الباغوزارية المزعومة، وروى في النوادر عنه (رقم9) مسلسل المصافحة الخضرية المزعومة، ورقم (14) المصافحة المعمّرية، وثلاثتها من الموضوعات الصريحة.
5- التاج محمد القلعي المكي: ذكر في الإتحاف (77) أنه سمع منه أطراف الستة والدارمي وموطأ محمد والآثار، وأجازه عامة. وبنحوه في الإرشاد (خ)، وذكر في الإتحاف (ص264) أنه سمع من لفظه طرفاً من موطأ ابن يحيى، وكذا (ص268) سمع من لفظه طرفاً من الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني، وفي (ص273) من لفظه طرفاً من موطأ محمد المذكور.
ونقل في نزهة الخواطر أنه حضر دروسه أياماً حين كان يدرس صحيح البخاري، وأخذ عنه الحديث المسلسل بالأولية عن الشيخ إبراهيم بن الحسن المدني، وهو أول حديث سمعه منه المترجم بعد عوده من المدينة إلى مكة، وكذا قاله العطار.
6- عبد الرحمن بن أحمد النخلي: قال في الإرشاد (خ) عند ذكره ثبت أسانيد أحمد النخلي: ناولنيها الشيخ عبد الرحمن النخلي بن الشيخ أحمد المذكور، وأجازني لها عن أبيه.
7- محمد بن أحمد بن عقيلة: قال في الفضل المبين (ص95): شافهني ابن عقيلة بإجازة ما تجوز له روايته، ووجدت في مسلسلاته حديثا مسلسلا بانفراد كل راوٍ بصفة عظيمة تفرد بها.
وجعله الكتاني في فهرس الفهارس (1/86) يروي عنه مسلسل الأولية سماعاً، ولم أقف على ما يثبته.
8- محمد وفد الله بن محمد الروداني: قال في الإتحاف
(258):
«قرأ هذا الفقير الموطأ حرفاً حرفاً على الشيخ محمد وفد الله المكي المالكي بن الشيخ محمد بن محمد بن سليمان المغربي، نزيل مكة»[8]، وذكر في الإرشاد أنه أجازه عن أبيه بجميع ما في ثبته صلة الخلف.
9- محمد فاضل السندي: جاء في جزء إسناد القرآن لشمس الحق العظيم آبادي (خ) بسنده عن الشاه ولي الله أنه قال: «قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره برواية حفص عن عاصم على الصالح الثقة الحاج محمد فاضل السندي سنة 1153، قال: تلوته من أوله إلى آخره برواية حفص على الشيخ عبد الخالق شيخ القراء بمحروسة دهلي، قال: قرأت القرآن كله بالقراءات السبع على الشيخ محمد البقري». إلى آخر السند المشهور.
10- سالم بن عبد الله البصري: ذكره الكتاني في فهرس الفهارس (1/178) من شيوخه، وقال (2/979) في الرواية عنه: «ومن طريق ولي الله الدهلوي عن الحاج السيالكوتي الدهلوي عن سالم المذكور، ثم أخذ ولي الله عن الشيخ سالم مباشرة بعد رحلته للحجاز»، فلعله ممن عناهم المترجم بقوله في الإتحاف (77) -بعد ذكره أكثر شيوخه-: «وقد أجازني غير هؤلاء المذكورين إجازة عامة لجميع مروياتهم؛ يطول البيان بذكرهم». ويُفهم من هذا النص أنهم جماعة.
11- محمد سعيد اللاهوري: أخذ عنه أعمال الجواهر الخمسة، ووصفه في الانتباه بالصالح الثقة المعمر.
موقفه من بعض المسائل:
وكان رحمه الله متفنناً في العلوم، مجتهداً أثرياً، ومع كونه حنفياً في الأصل إلا أنه يرجّح الصحيح من الحديث، ولا يرى غضاضة في مخالفة المذهب عنده، ويصرح بأن الدليل هو المرجع، وكتبه مشحونة بذلك تقريراً وعملاً، وانظر أمثلة من نقولات السيالكوتي (127 وبعدها)، وامتدحه في ذلك الإمام الألباني في كتابيه صفة الصلاة (2/617 الأصل) وأحكام الجنائز (231).
وأما في الاعتقاد فقد مرَّ المترجم بأطوار، وهذا يبيّنه اضطراب موقفه وكلامه في كتبه، وهو سلفي بالجملة كما قال شيخنا الحافظ ثناء الله المدني مفتي أهل الحديث في باكستان.
وأما في الإجمال فإنه وإن انتسب للأشعرية في بعض كتاباته: فقد قيّده في الفضل المبين (رقم 11) بقوله عن نفسه: «ومختاره في العقيدة مذهب المتقدمين من الأشاعرة»، وفصّل مفهومه لذلك بأن أبا الحسن الأشعري رحمه الله استقر على مذهب الإمام أحمد وأهل الحديث في الاعتقاد، وأنه لا يؤول الصفات، وقال في رسالته في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا الذي حققناه هو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري. أقرأني أبوطاهر المدني رضي الله عنه بخط أبيه، أن الشيخ أبا الحسن قال في كتابه: إني على مذهب أحمد في مسألة الصفات، وإن الله فوق العرش».
وعقد في كتابه حجة الله البالغة باباً في الإيمان بصفات الله تعالى وجاء فيه (1/132-134): «والصفات ليست بمخلوقات محدثات، والتفكر فيها إنما هو أن الحق كيف اتصف بها، فكان تفكرا في الخالق، قال الترمذي في حديث «يد الله ملأى»: وهذا الحديث قال الأئمة نؤمن كما جاء من غير أن يُفسر أو يتوهم، هكذا قال غير واحد من الأئمة، منهم سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن عيينة، وابن المبارك: إنه تروى هذه الأشياء ويؤمن بها، ولا يقال كيف.
وقال في موضع آخر: إن إجراء هذه الصفات كما هي ليس بتشبيه، وإنما التشبيه أن يقال: سمع كسمع وبصر كبصر.
وقال الحافظ ابن حجر: لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك -يعني المتشابهات- ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه وينزل عليه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [التوبة: 3] ثم يترك هذا الباب، فلا يميّز ما يجوز نسبته إليه تعالى مما لا يجوز، مع حثّه على تبيلغ الشاهد الغائب، بقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب"، حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وما فُعل بحضرته، فدلّ على أنهم اتفقوا على الإيمان به على الوجه الذي أراده الله تعالى منها، وأوجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم.
أقول: ولا فرق بين السمع والبصر والقدرة والضحك والاستواء، فإن المفهوم عند أهل اللسان من كل ذلك غير ما يليق بجناب القدس، وهل في الضحك استحالة إلا من جهة أنه يستدعي الفم؟! وكذلك الكلام؟ وهل في البطش والنزول استحالة إلا من جهة أنهما يستدعيان اليد والرجل؟! وكذلك السمع والبصر يستدعيان الأذن والعين، والله أعلم.
واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث، وسموهم مجسمة ومشبهة، وقالوا: هم المتسترون بالبلكفة!
وقد وضح عليَّ وضوحا بينا أن استطالتهم هذه ليست بشيء، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية، وخاطئون في طعنهم على أئمة الهدى».
وجاء في الفوز الكبير له (ص40 ترجمة سلمان الندوي): «فقد تعرض القرآن الكريم للأسماء والصفات الإلهية بطريقة واضحة وسهلة، يدركها جميع أفراد البشر بفطرتهم وبمداركهم التي أودعت في أصل خلقتهم، من دون حاجة إلى ممارسة الفلسفة الإلهية أو علم الإلهيات أو علم الكلام».
وقال في التفهيمات الإلهية (2/240 ومعربه في جهود مخلصة ص73 وترجمة السيالكوتي 201): «وصية هذا الفقير: الاعتصام بالكتاب والسنة في العقيدة، والعمل والتفكير فيهما دائماً، وقراءة جزء منهما كل يوم، وإن لم يستطع القراءة فيسمع ترجمة ورقة من كليهما، واختيار مذهب قدماء أهل السنة في العقيدة، والإعراض عن تفصيل ما لم يفصلوه، وعدم التوجه إلى تشكيك أهل العقول، واتباع العلماء المحدّثين في الفروع، فهم قد جمعوا بين الحديث والفقه».
وهذه وصية نافعة، رحمة الله رحمة واسعة[9].
وكان رحمه الله داعية للتوحيد محذراً من الشرك، وعقد في ذلك أبواباً في كتابه حجة الله البالغة (1/122 وبعدها)، وجمع كثيراً من أقواله في المسألة الشيخ شمس الحق الأفغاني في كتابه جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، والسيالكوتي في ترجمته (74 وبعدها).
وأما في مسألة الصحابة فقد كان من أبرز الرادّين على الرافضة المتسلطين في بلده، وألّف في ذلك كتابيه قرة العينين في تفضيل الشيخين، وإزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء، وبقي الكتاب الثاني معتمد الناس هناك لتميّزه؛ إلى أن ألّف ابنه عبد العزيز تحفته المشهورة، فزاد من كبت القوم.
وكان المترجم متأثراً بالصوفية شأن كثير من أهل وقته وبلده، ويؤول لبعضهم، بل له توسع في الروحانيات وعبارات تُستنكر وتُنتقد، وأكثرها في طوره القديم، وله كلام يُفهم منه وحدة الوجود، وآخر صريح جداً في أن قول ذلك زندقة، ولا شك أن الثاني هو قوله الأخير، وعلى كلٍ صرّح بأن العبرة بالتمسك بالشريعة، وأن من لم يتعلمها ويتمسك بالفقه والحديث لم يصح له السلوك في التصوف، بل كان يُنكر على بعض غلاتهم وجهالهم، ويشدد فيهم العبارة، وينقد بدعهم وضلالاتهم وشركياتهم، ويسعى في صلاحهم، وانظر نقولات مهمة من كتبه للسيالكوتي (99-104، و118-124).
وأما الجهاد فقد كان له الموقف المشرّف والإسهام الكبير في حث الأمير نجيب الدولة لتحريك الجيوش لنصرة المسلمين ضد الكفرة المرهتة الذين شكلوا أكبر خطر على الحكومة الإسلامية في الهند، وكاتب الملك أحمد شاه القندهاري، فجرّد جيوشه، وهزمهم هزيمة منكرة في باني بت سنة 1174، وذُكر أنه قتل منهم مائتي ألف، ولم تقم لهم قائمة بعدها.
وكان المترجم كثير النصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم، وله رسالة مفيدة أسماها بالمقالة الوضية في النصيحة والوصية
[10].
ألف المترجم أكثر من مائة كتاب ورسالة -كما ذكر النوشهروي-، وطُبع كثير منها، وبعضها مخطوط، وآخر فُقد، ومنها ما انتشر في الخافقين، وعلى رأسها كتابه الرائد: حجة الله البالغة.
ومن أشهرها:
فتح الرحمن في ترجمة القرآن بالفارسية -وكاد أن يُقتل بسببه-، والفوز الكبير في أصول التفسير.
والمصفى شرح الموطا برواية يحيى بن يحيى الليثي، اقتصر على شرح الأحاديث المرفوعة على طريقة المجتهدين.
والمسوى شرح الموطا، فيه على ذكر اختلاف المذاهب وعلى قدر من شرح الغريب.
ومنها شرح تراجم الأبواب للبخاري.
ومنها ثبته الإرشاد في مهمات الإسناد، وثبته الآخر: إتحاف النبيه فيما يحتاج إليه المحدّث والفقيه، وفيه أبحاث نفيسة، وهو من أجلّ الأثبات المتأخرة.
ومن مؤلفاته: إنسان العين في مشايخ الحرمين، وتلخيص إنسان العيون، ومناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، وإزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء، وقرة العينين في تفضيل الشيخين بالفارسية، والإنصاف في بيان أسباب الاختلاف بين الفقهاء والمجتهدين، وعقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، والتفهيمات الإلهية، ومنها ديوان الشعر العربي جمعه ولده الشيخ عبد العزيز ورتبه الشيخ رفيع الدين.
وساق في نزهة الخواطر مقاطع طويلة من شعره.
وجمع رسائله أبو القاسم الهنسوي الفتحبوري.
من ثناء العلماء عليه:
قال شيخه أبو طاهر الكوراني في إجازته له (من إتحاف النبيه 82): العلامة الأوحد، والفهامة الأمجد، الحبر الذي لا يبلغ الفحول شأوه في مضمار البيان الخطير، والجهبذ الحائز قصب السبق في ميادين التقرير والتحرير، الوارث للكمالات عن أسلافه الكرام ذوي التقريب، البالغ في شبيبته من الكمال ما لا يبلغه الشيب.
ونقل الترهتي عن أبي طاهر أنه:
«قال فيه: إنه يسند عني اللفظ وكنت أصحح منه المعنى. أوكلمة تشبه ذلك، وكتبها في ما كتب له»[12].
وقال شيخه محمد وفد الله في إجازته له (من مشيخة العطار): الشاب الصالح، العالم الفالح، سلالة الأولياء الكرام، نخبة الصالحين الأعلام، جامع الشريعة والحقيقة، المتضلع من العلوم بكل جليلة وحقيقة، المتحلي من سر اسمه بكل نصيب، الذي هو في كل ما يرومه ناجح ومصيب، حبيبنا وعزيزنا.
وقال ابنه الشاه عبد العزيز في بستان المحدثين (63 تعريب محمد أكرم الندوي): شيخنا وقدوتنا في كل العلوم والأمور الشيخ ولي الله الدهلوي.
وقال أيضاً في إجازة له (نقلتها في ترجمته): والدي الشيخ الأجل الأكمل، مسند الوقت، ومحدّث الزمان، وحافظ العصر، وحجة الله على الخلق.
وقال ابنه رفيع الدين في التكميل (كما في أبجد العلوم 1/203): والدي العارف الواصل والنحرير الكامل.
وقال عبد المجيد الخاني في الحدائق الوردية (351): العالم العامل، المسند المحدث الفاضل.
وقال محسن الترهتي في اليانع الجني (79): إمامنا ومولانا وحجتنا ومقتدانا، قدوة الأمة، وصدر الأئمة.. هو المفسّر المحدّث الفقيه العارف، لسان الحقائق والمعارف، رئيس المحدّثين، وريحانة الفقهاء المبرزين، صدر الأئمة، وحجة الأمة، متقن العلوم وباقرها ونحريرها، جامع خصال الخير الذي تهللت به أساريرها.
وأطال الثناء والمدح له.
وقال عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (25): وتصانيفه كلها تدل على أنه كان من أجلاء النبلاء وكبار العلماء، موفقاً من الحق بالرشد والإنصاف، متجنباً عن التعصب والاعتساف، ماهراً في العلوم الدينية، متبحراً في المباحث الحديثية.
وقال صديق خان في أبجد العلوم (3/241): مسند الوقت الشيخ الأجل.
وقال في فتوى حكم الرابطة النقشبندية: قد صرّح بالنهي عنها الشيخ أحمد وليّ الله المحدّث الدهلويّ إمام هذه الطبقة وزعيمها، ومسند وقته، ومجدِّدِ عصره، وفرد الملّة المحمدية وحكيمها.
وقال نذير حسين في إجازته لعلي أبو وادي (خ): الشيخ الأكرم الأكمل المكمّل، بقيّة السَّلَف، وحُجّة الخَلَف.
وقال في إجازته للمباركفوري (ذكرها في تحفة الأحوذي 1/4): الشيخ القرم المعظم، بقية السلف، وحجة الخلف.
وقال النعمان الألوسي في جلاء العينين (395): الشيخ الأجل مسند الوقت.
وقال العظيم آبادي في غاية المقصود (1/71): رئيس الفقهاء والمحدّثين، مسند الوقت، آية من آيات الله.
ووصفه الجمال القاسمي في قواعد التحديث (262) بالإمام العلامة.
وقال عبد الحي الحسني في نزهة الخواطر (6/410): الشيخ الإمام الهمام، حجة الله بين الأنام، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، زعيم المتضلعين بحمل أعباء الشرع المتين، محيي السنة، وعظمت به لله علينا المنة، شيخ الإسلام، قطب الدين.
قلت: وأطال الثناء عليه ومدحه، ونقل ثناء طويلا عن شرف الدين محمد الحسيني الدهلوي في كتابه الوسيلة إلى الله، ونقل عن غيره من علماء الهند ثناء عاطراً، ومنه النقل عن المفتي عناية أحمد الكاكوروي أنه كان يقول: إن الشيخ ولي الله مثله كمثل شجرة طوبى أصلها في بيته وفرعها في كل بيت من بيوت المسلمين، فما من بيت ولا مكان من بيوت المسلمين وأمكنتهم إلا وفيه فرع من تلك الشجرة لا يعرف غالب الناس أين أصلها.
وقال عبد الرحمن المباركفوري في إجازتيه لمحمد بن إبراهيم آل الشيخ ولعبد الجبار الجيفوري: الشيخ القرم المعظم، بقية السلف، وحجة الخلف.
وقال محمد رشيد رضا في مجلة المنار (34/236): مجدد القرن الثاني عشر للهجرة في الهند بدعوته وإرشاده وتربيته وتدريسه ومصنفاته، وبمن ترك من العلماء الأعلام من أبنائه وتلاميذه ومريديه، فقد كان جامعًا بين العلوم النقلية والعقلية والفلسفة والتصوف؛ كما يُعْلَم من كتابه المشهور: حجة الله البالغة؛ الذي وضعه لبيان مقاصد الشريعة وحِكَمها وأسرارها.
ووصفه محمد بن حسين فقيه بالإمام الحافظ في كتابه الكشف المبدي لتمويه أبي الحسن السبكي تكملة الصارم المنكي (175).
وقال الكتاني (1/178): كوكب الديار الهندية.. كان هذا الرجل من أفراد المتأخرين علما وعملا وشهرة، أحيا الله به وبأولاده وأولاد بنته وتلاميذهم الحديث والسنة بالهند بعد مواتهما، وعلى كتبه وأسانيده المدار في تلك الديار، والمترجم والله جدير بكل إكبار واعتبار.
وقال (1/179) عن الرواية من طريق محمد إسحاق عن جده عبد العزيز عن أبيه المترجم: ولا أحلى عندي من هذا السند ولا أجلّ، لكون رجاله كانوا أئمة في الدين، دعاة إلى الصراط السوي المستقيم.
وقال (2/1122): وهو ممن ظهر لي أنه يُعد من حفاظ القرن الثاني عشر، لأنه ممن رَحل ورُحل إليه، وروى وصنّف واختار ورجح، وغرس غرساً بالهند أطعم وأثمر، وأكل منه خلق.
وقال محمد عطاء الله حنيف الفوجياني في مقدمة إتحاءف النبيه (49): كان من أجلاء العلماء، وكبار العلماء، ماهراً في العلوم الشرعية، متبحراً في المباحث الحديثية.
وعدّه الألباني في أحكام الجنائز (231) من كبار العلماء المحققين المعروفين باستقلالهم في الفهم، وتعمقهم في الفقه عن الله ورسوله، وأحد الأفاضل.
ذريته:
له خمسة أبناء: محمد
[13] -وهو الأكبر- من زوجته الأولى، وعبد العزيز، وعبد القادر، ورفيع الدين عبد الوهاب، وعبد الغني، وهو أصغرهم، وأمهم إرادة بنت ثناء الله، وله بنت.
وفاته:
قال عبد الحي الحسني: توفي إلى رحمة الله سبحانه ظهيرة يوم السبت سلخ شهر الله المحرم سنة ست وسبعين ومائة وألف بمدينة دهلي فدفن عند والده خارج البلدة، وله اثنان وستون سنة، كذا وجدته بخط الشيخ نعمان بن نور الحسني النصير آبادي.
وقال النوشهروي: إنه دفن في مقبرة مهنديان بدهلي، الواقعة خلف السجن القديم، وتسمى مقبرة المحدّثين، فقد دُفن فيها أيضاً الشاه عبد العزيز وأشقاؤه، وعدد من علماء ذريتهم وغيرهم.
من الآخذين عنه:
أبناؤه محمد، وعبد العزيز
(وذكرت سماعاته عليه في ترجمته[14])، وعبد القادر، وأخوه أهل الله، وابن خاله محمد عاشق الفلتي، وأبو سعيد بن محمد ضياء البريلوي، وأحمد بن أبي أحمد الدهلوي، وأمين الله العظيم آبادي، وتهور علي النكينوي، والقاضي ثناء الله باني بتي، وثناء الله السنبهلي، جارالله بن عبدالرحيم اللاهوري المدني, وجمال الدين الرامفوري, وخيرالدين السورتي, ورفيع الدين المراد آبادي, وشرف الدين الدهلوي، وشعيب الحق البهاري، وظهور الله المراد آبادي، وعبد الرحمن بن نظام الدين التتوي
(ذكر في إجازته بالتفهيمات 1/235 أنه قرأ عليه القرآن، والصحيحين، وموطأ الشيباني بفوت، وطرفا صالحا من شرح السنة، وقريب النصف من النسائي، وسمع عليه البخاري ثانية، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والمشكاة، والحصن الحصين، وطرفا من النسائي، ومن مصنفاته فتح الرحمن، وحجة الله البالغة، والمسوى، وغيره)، وغلام حسين الصمدني، وفخر الدين الدهلوي، وقطب الدين الشاهجهانبوري، ومحمد أمين الكشميري الولي اللهي، ومحمد بن بير بن محمد بن أبو الفتح البلغرامي
(أخذ عنه قراءة وسماعا جميع البخاري، وأطرافاً من بقية الستة، والموطأ، والدارمي، المشكاة)، ومحمد جواد الفلتي، ومحمد سعيد الدهلوي، ومحمد سعيد خان الرامفوري، ومحمد شريف بن خير الله، ومحمد عبدالله خان الرامفوري، ومحمد مخدوم اللكنوي، ومحمد معين بن محمد أمين السندي، ومحمد نعمان النصير آبادي، ومحمد واضح البريلوي، ومرتضى الزبيدي، نثار علي الظفر آبادي، ونور الله بن معين الدين البرهانوي
(إجازته بأول التفهيمات الإلهية).
ونقل العطار في مشيخته (ق153) من إجازة المترجم لمحمد أمين الكشميري أنه أجاز لكل من من أدرك حياته.
[1] معظم ترجمته مستقاة من نزهة الخواطر (6/410)، ومشيخة العطار (ق155 وبعده) وتراجم علماء الحديث في الهند للنوشهروي (1/49 وبعده)، وترجمة السيالكوتي.
ولم أتوسع كثيراً في ترجمته لشهرته وكثرة الكتابات المفردة عنه وعن جوانب من حياته وفكره.
وله ترجمة ذاتية بعنوان: الجزء اللطيف في ترجمة العبد الضعيف.
وترجمه ابن خاله ورفيقه وتلميذه الأكبر محمد عاشق الفلتي في: القول الجلي في مناقب الولي.
وألّف أبو القاسم الهنسوي الفتحبوري في سيرته: سرور المحزون.
ومن الكتب المفردة: الإمام المجدد المحدّث الشاه ولي الله الدهلوي حياته ودعوته، لمحمد بشير السيالكوتي.
وحركة الانطلاق الفكري وجهود الشاه ولي الله في التجديد، للعلامة أبي الخير محمد إسماعيل السلفي، عرّبه الشيخ الدكتور مقتدى حسن الأزهري، وكلاهما مفيد.
وأفرد ترجمته غيرهم.
[2] قال صديق خان في أبجد العلوم (3/243 وعنه نزهة الخواطر):
كان بيته في الهند بيت علم الدين، وهم كانوا مشايخ الهند في العلوم النقلية بل والعقلية، أصحاب الأعمال الصالحات، وأرباب الفضائل الباقيات، لم يعهد مثل علمهم بالدين علم بيت واحد من بيوت المسلمين في قطر من أقطار الهند، وإن كان بعضهم قد عرف بعض علم المعقول، وعُدّ على غير بصيرة من الفحول! ولكن لم يكن علم الحديث والتفسير والفقه والأصول وما يليها إلا في هذا البيت، لا يختلف في ذلك مختلف من موافق ولا من مخالف؛ إلا من أعماه الله عن الإنصاف، ومسته العصبية والاعتساف، وأين الثرى من الثريا؟ والنبيذ من الحميا؟ والله يختص برحمته من يشاء.
وقال في الحطة (145 وعنه مقدمة تحفة الأحوذي 1/50) في ذكر من جاء بعلم الحديث في الهند:
ثم جاء الله سبحانه وتعالى من بعدهم بالشيخ الأجل، والمحدث الأكمل، ناطق هذه الدورة وحكيمها، وفائق تلك الطبقة وزعيمها: الشيخ ولي الله
بن عبد الرحيم الدهلوي، المتوفى سنة ست وسبعين ومائة وألف، وكذا بأولاده الأمجاد، وأولاد أولاده أولي الإرشاد، المشمرين لنشر هذا العلم عن ساق الجد والاجتهاد، فعاد بهم علم الحديث غضا طريا، بعدما كان شيئا فريّا، وقد نفع الله بهم وبعلومهم كثيرا من عباده المؤمنين، ونفى بسعيهم المشكور من فتن الإشراك والبدع ومحدثات الأمور في الدين ما ليس بخاف على أحد من العالمين، فهؤلاء الكرام قد رجّحوا علم السنة على غيرها من العلوم، وجعلوا الفقه كالتابع له والمحكوم، وجاء تحديثهم حيث يرتضيه أهل الرواية، ويبغيه أصحاب الدراية، شهدت بذلك كتبهم وفتاواهم، ونطقت به زبرهم ووصاياهم، ومن كان يرتاب في ذلك فليرجع إلى ما هنالك، فعلى الهند وأهلها شكرهم ما دامت الهند وأهلها. اهـ.
قلت: بل شكرهم تعدى أهل الهند إلى العرب وغيرهم، وما مجالس سماع الحديث الخاصة والعامة وما تلاها إلا استمرارٌ لصحيفة حسناتهم، جزاهم الله عنا خيراً.
والأمر كما قال المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي (1/50): وجملة الكلام أن الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله تعالى غرس في الهند شجرة علم الحديث، فاشتدت هذه الشجرة وتمكنت وطالت أغصانها، وعلت وتشعبت قضبانها، وانتشرت حتى أحاطت البلاد والأمصار، وبلغت بفروعها في جميع النواحي والأقطار.. الخ.
وقال الكتاني في فهرس الفهارس (2/1166):
آل ولي الله الدهلوي نجوم السنة في الهند.
[3] لكنه قال في موضع آخر (191): إلا أفواتاً من كتاب البيع إلى كتاب الآداب فإنها بالإجازة.
وهكذا حدد الفوت أيضاً في إجازةٍ له. (انظر مشيخة العطار ق156).
[4] ولا أدري بعد تصريح المترجم وابنه وغيرهما سبب قول العطار إنه يُقال -هكذا بالتمريض- إن للمترجم رواية عن محمد أفضل، وسمع منه الأولية. فلعله لم يقف على ذلك بنفسه أو ذهل عن استحضاره.
ثم هذا مثال آخر على ترادف الإجازة عند متأخري أهل الهند بين العامة، وبين تخصيص كتب الأمات بالذكر، وأنهم يفهمون منها التعميم، ولا يقصدون الحصر.
[5] ذكر في موضع آخر (157) أنه في خمسين مجلساً.
[6] وطالعت في جامعة الملك سعود نسخة مخطوطة متأخرة مأخوذة عن الإتحاف.
وذكر العطار أنه رأى أصل الإجازة المذكورة.
[7] وهذا النص -مع قرينة قراءة أطراف بقية الكتب المذكورة- يجعلني أغلّب أن المترجم قرأ على ابن عقيل أوائل جدّه البصري، وأن ابن عقيل قرأها على جده، وليس لديّ نصٌّ صريح في الاثنين الآن.
[8] قلت: صرّح هناك أن شيخه مكي، وقال في إجازته للبلغرامي (خ): «الرُّداني أصلاً، والمكي مولداً ونشأة»، ولم يصّرح أنه قرأ عليه فيها،وأما مؤلف نزهة الخواطر ففهم أن قراءته عليه في مكة، وكذا غيره، ولكن نص المترجم في الفضل المبين (ص76) قائلاً: شافهني محمد وفد الله ثالث عشر من شهر المحرم عام ألف ومائة وتسع وأربعين.
وعلّق المحشّي عليه بأنه مشكل، لأن المترجم ورد مكة سنة 43 وسافر سنة 44، يعني أنه كان في سنة 49 بالهند.
قلت: إنما الإشكال لو كان صرَّح بالقراءة عليه في مكة، ولكن قراءته عليه كانت في الهند فعلاً، فقال أبو الخير العطار في مشيخته (ق158) عن المترجم: «ثم رجع إلى بلده، واتفق أنه وصل إلى دهلي الشيخ العلامة المحدث المسند عالي الإسناد الشيخ محمد وفد الله المغربي المالكي المكي، ابن الشيخ العلامة المحدث محمد بن محمد بن سليمان الروداني المغربي المكي ثم الدمشقي، فقرأ عليه جميع موطأ الإمام مالك، وقد وقفت على النسخة التي قرأ فيها الشيخ ولي الله على شيخه المذكور، وفي آخرها إجازة منه بخطه..» ثم ساقها، وفيها أن القراءة كانت في مجالس آخرها ضحى الجمعة سادس المحرم سنة 1149، وذلك بدار الخلافة [ثم بياض بالمخطوط، وهو يعني دهلي] من أرض الهند المعمور.
وانظر عن ابن الروداني أيضاً: فهرس الفهارس (1/428).
[9] استفدت بعض النقول من كلام لأحد الإخوة طلبة العلم في ملتقى أهل الحديث.[10] ساقها السيالكوتي كاملة في ترجمته (201-211)، وأظنها نفس ما في التفهيمات الإلهية (2/240 وبعدها).
وهنا تنبيه تكرر مني في عدة تراجم: أنه عند تقويم أي عَلَم لا بد أن يُؤخذ بالاعتبار عصره ومصره، فإذا عرفنا نشأة المترجم وتطوره وجهوده وثمار دعوته، أيقنا بأن المؤاخذات عليه -إن لم يكن رجع عنها- مغمورةٌ في بحار حسناته وفضائله، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عنا خيراً.
[11] اقتصرت على تعداد أشهرها، وتوسع في ذكرها الحسني والنوشهروي والسيالكوتي.
[12] قلت: إن عنى إجازته له فلم أجدها فيما نقل المترجم من إجازته في الإتحاف، فلعلها في غيرها.
[13] توسع النوشهروي في ذرية المترجم، ولكن فاته أن يذكر من أولاده محمد (ت1208)، وهو الأخ غير الشقيق لعبد العزيز وبقية إخوانه، وقال الشاه عبد العزيز في إجازة له ضمن تعداد مسموعاته على أبيه: «والحصن الحصين، وشمائل الترمذي سماعاً عليه؛ بقراءة أخي الأكبر الشيخ محمد»، وله ترجمة مقتضبة في نزهة الخواطر.
قلت: وما تزال ذرية المترجم باقية إلى اليوم، وفيهم من فضلاء ووجهاء أهل الحديث المشاركين في مناشطهم.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/Culture/0/36264/#ixzz2hLbuvxJR