ستطاع بوهيموند بذكائه ودهائه أن يحقق هدفه في إبعاد الدولة البيزنطية عن الساحة على الأقل عند لحظات سقوط أنطاكية، وبذلك يضمن أن تكون له لا لغيره! وبدأ بوهيموند من جديد ينسق الجيوش، ويرسل الفرق هنا وهناك للإتيان بالمؤن والغذاء، وأخذ يبثُّ الحماسة في قلوب الجنود الصليبيين وزعمائهم[1].
سفارة شيعية فاطمية للصليبيين
في هذه الأثناء وفي (491هـ) يناير سنة 1098م حدث أمر غيَّر كثيرًا في سير الأحداث، وأضاف قوة ملموسة إلى المعسكر الصليبي؛ لقد جاءت سفارة من دولة مصر تعرض التفاهم والتفاوض مع الجيش الصليبي لتحقيق مصالح مشتركة!!
لقد كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم العبيديين المعروفين بالفاطميين، وهم من الشيعة الإسماعيلية، وكانوا على خلاف كبير مع السلاجقة السُّنَّة، وكذلك مع الخلافة العباسية السُّنِّيَّة؛ ففكر هؤلاء العبيديون في التعاون مع الصليبيين لحرب السلاجقة السنة!! وكان الخليفة العبيديّ في ذلك الوقت هو المستعلي بالله، وإن كانت الأمور كلها في يد الوزير الأفضل بن بدر الجماليِّ. وكان عرض الدولة العبيدية يشمل الاتفاق مع الصليبيين على تقسيم الشام بينهما، فيأخذ الصليبيون أنطاكية ومدن الشمال، بينما يأخذ العبيديون بيت المقدس. وكان العبيديون بالفعل يسيطرون على بيت المقدس حيث قاموا باحتلاله سنة (491هـ) 1097م، حينما كان السلاجقة مشغولين بحرب الصليبيين في آسيا الصغرى[2].
لقد كانت هذه السفارة تحمل البشريات للجيش الصليبي، بينما كانت طعنة نافذة في صدر -بل في ظهر- الأمة الإسلامية!!
آثار السفارة الفاطمية الشيعية
لقد كان لهذه السفارة من الآثار السلبية ما يخرج عن حدِّ التخيل:
فأولاً: رفعت هذه السفارة جدًّا من معنويات الجيش الصليبي؛ إذ علموا أنهم يتعاملون مع أمَّة ضائعة، ليس لها من همٍّ إلا التملك والثروة، وأنهم على استعداد لبيع بعضهم البعض، ولو كان المشتري هم الصليبيون.
وثانيًا: سيؤدِّي هذا الجهد العبيديّ إلى تشتيت السلاجقة السُّنَّة، وإحداث الاضطراب بين صفوفهم؛ فالصليبيون سيهاجمون من الشمال، والعبيديون من الجنوب.
ثالثًا: سيأمن الصليبيون من هجوم الدولة المصرية التي كانت تملك جيشًا كبيرًا، إضافةً إلى أسطول بحري قوي، كان من الممكن أن يغيِّر الموقف في أنطاكية وغيرها لو كان يملكه مخلصون للمسلمين.
رابعًا: وهو أمر مهم جدًّا أن هذه السفارة تعني الاعتراف من الدولة المصرية لهذا الكيان الجديد القادم على أرض المسلمين، وأن له الأحقية الشرعية في أرض أنطاكية[3]، وعندها لا يجوز للمسلمين أن يطالبوا بهذه الأرض، فقد أعطوها في مقابل أرض بيت المقدس، وسينسى الناس بعد ذلك أن كلتا الأرضين مسلم!!
لقد كانت خيانة بكل المقاييس!!
ولقد أظهر الصليبيون الترحاب بالسفارة مع أنهم يعزمون تمامًا على أخذ بيت المقدس، بل ويعلنون ذلك جهرةً في كل محافلهم، ولكنهم قبلوا بهذا الطرح مؤقتًا[4]، وسوف يتجاهلونه مستقبلاً كما تجاهلوا وعودهم للدولة البيزنطية، وهو ما يسمى في أعرافهم سياسة، ولكنها -للأسف- سياسة لا تنجح إلا مع الأغبياء أو العملاء! ولقد كان كثير من زعماء المسلمين في ذلك الوقت من أحد هذين الصنفين أو منهما معًا!
كان هذا هو موقف الدولة العبيدية الشيعية.
موقف رضوان بن تتش
وماذا كان موقف رضوان بن تُتش حاكم حلب؟!
إن موقفه خطير جدًّا؛ فهو وإن كان على خلاف مع ياغي سيان إلا أنه يعتبر أنطاكية من ممتلكاته الشخصية[5]، وأن ياغي سيان استولى عليها، ومن ثَمَّ فالصليبيون الآن يأخذون جزءًا من ميراثه، فوق أنهم قريبون جدًّا منه، وقد يتوجَّهون إلى حلب بعد سقوط أنطاكية؛ لذلك انتهز رضوان فرصة قدوم طلب نجدة من ياغي سيان بعد أن يَئِس ياغي سيان من دقاق وغيره، فأسرع بتجهيز جيش لملاقاة الصليبيين، وصاحبه في حملته أمير حماة وبعض القوات من ديار بكر[6]، واجتمعت كل القوات في حارم على بُعد ثلاثين كيلو مترًا شرق أنطاكية.
إنهم لم يخرجوا ليحفظوا دين الإسلام وأرضه وأعراض المسلمين!! بل خرجوا حفظًا لأملاكهم، أو ذرًّا للرماد في العيون. وهذه النوعية من الجيوش لا تُنصر عادةً!
تم الاتفاق بين رضوان من ناحية وياغي سيان من ناحية أخرى على الخروج في وقت متزامن من حارم وأنطاكية لحرب الصليبيين من الشرق والغرب، فيقع بذلك الصليبيون في كمين بين الفريقين[7].
الخطة محكمة، لكن القلوب مريضة والأجساد عليلة!
هزيمة قاسية للتحالف المريض
تسربت أنباء الخطة عن طريق نصارى حلب إلى الجيش الصليبي[8]، فخرج بوهيموند بنفسه على رأس فرقة صغيرة من الفرسان تبلغ سبعمائة فارس فقط، وترك جيشه محاصِرًا لأنطاكية، والتقى بوهيموند بهذه الفرقة الصغيرة مع جيوش حلب وحماة وديار بكر عند بحيرة العمق في شرق أنطاكية[9]، وللأسف الشديد فإن كثرة الجيوش الإسلامية لم تغنِ عنها شيئًا، وإذا بالقلة الصليبية تسيطر على الموقف بسرعة، وأسرعت الجيوش الإسلامية بالفرار[10]، وقُتل منهم عدد كبير، وقطَّع بوهيموند رءوسهم، وحملها على أسِنَّة الرماح، وعاد مسرعًا إلى أنطاكية.
في هذه الأثناء كان ياغي سيان قد خرج لحرب الجيوش الصليبية بعد ابتعاد بوهيموند، إلا أنه -للأسف- هُزم هو الآخر فدخل مسرعًا إلى حصونه، ثم جاء بوهيموند وألقى بالرءوس المقطَّعة داخل أسوار أنطاكية؛ ليرسل رسالة رعب إلى ياغي سيان وشعبه[11]!
إمدادات صليبية
استمر حصار أنطاكية، بل وبدأ الصليبيون في بناء قلعة مجاورة على تل قريب من أسوار أنطاكية لاستخدامها في قصف أسوار أنطاكية، والتحصن بداخلها من السهام المسلمة[12]. وأثناء بناء القلعة، وفي (491هـ) 4 من مارس سنة 1098م وصل أسطول إنجليزي إلى ميناء السويدية يحمل كميات كبيرة من الزاد والسلاح وآلات الحصار؛ مما رفع معنويات الجيش الصليبي جدًّا، ثم تمَّ لهم بناء القلعة في (491هـ) 19 من مارس 1098م، وبذلك صار الحصار مشددًا بشكل أكبر وأخطر[13].
ياغي سيان واستغاثة سلجوقية
جدد ياغي سيان استغاثته بسلطان سلاجقة فارس بركياروق، وكذلك بواليه على الموصل كربوغا[14]، وقد استجاب كربوغا لنداء ياغي سيان، وجهَّز جيشًا كبيرًا، ولكنه -للأسف- قرر أن يحاصر الرها ويحاول إسقاطها قبل أن يأتي إلى أنطاكية، والذي دفعه إلى ذلك قرب إمارة الرها -وعلى رأسها الداهية بلدوين- من إمارة الموصل، فخَشِي كربوغا إن أخذ جيشه وذهب إلى أنطاكية (وهي على بُعد أكثر من سبعمائة كيلو متر من الموصل) أن يهجم بلدوين على الموصل الخالية من الجيوش. وهكذا أضاع هذا الأمر عدة أسابيع من كربوغا[15]، وهو في محاولة فاشلة لإسقاط الرها، ولم يتحرك في اتجاه أنطاكية إلا في (491هـ) أواخر شهر مايو 1098م.
أثار قدوم كربوغا في الطريق إلى أنطاكية الفزع في الجيش الصليبي، فالأخبار تقول أن جيشه كبير، والصليبيون قد تعبوا من طول الحصار، فقد مرت عليهم حتى الآن أكثر من سبعة أشهر، وهم مرابضون أمام أسوار أنطاكية، وفي هذه الحالة السيئة وفي يوم 2 من يونيو 1098م قرر ستيفن دي بلوا الانسحاب من المعركة ليأسه من فتح أنطاكية، وأخذ معه عدد كبير من الفرنسيين، واتجه إلى ميناء الأسكندرونة ليقفل عائدًا إلى فرنسا[16]!
لقد تأزم الموقف جدًّا على الفريقين!
الخيانة الأرمنية
في هذه الأثناء لعبت الخيانة دورها؛ لقد ظهر في أنطاكية رجل أرمني الأصل تظاهر بالإسلام اسمه نيروز أو فيروز، وتبادل الرسائل السرية مع الأرمن الموجودين في الجيش الصليبي، وكان كثير من الأرمن من أهل أنطاكية خرجوا من المدينة عند بدء الحصار وانضموا إلى الجيش الصليبي[17]، وقال هذا الرجل الأرمني: إنه يعلم أسرارًا قد تسهِّل فتح حصون أنطاكية. لقد كان هذا الرجل مقربًا من ياغي سيان، وكان ياغي سيان يوليه حراسة عدد من أبراج أنطاكية المهمة.
وصلت هذه المعلومات إلى بوهيموند شخصيًّا، فتكتمها عن بقية الزعماء الصليبيين، وتراسل مع هذا الأرمني الذي طلب مالاً وإقطاعًا في البلد بعد سقوطها، فأقره بوهيموند على ذلك[18]. جمع بوهيموند زعماء الحملة الصليبية وأعاد على أسماعهم خطورة الموقف، وتيقن مرة ثانية من أنهم سيسلمونه أنطاكية إذا تم فتحها[19]، ثم بدأ يحدِّد لحظة الهجوم وساعة الصفر، وكانت في (491هـ) صباح يوم 3 من يونيو 1098م، أي بعد يوم واحد من رحيل ستيفن دي بلوا ومن معه من الفرنسيين. فتح نيروز الأرمني الأبواب في برجه وفي بعض الأبراج المجاورة، بل إن بعض الروايات تذكر أنه قتل أخًا له؛ لكي لا يكشف قصة المؤامرة.
وهكذا انسابت الجيوش الصليبية الهائلة داخل المدينة مع الساعات الأولى من الصباح. أسرعت الأرمن في داخل المدينة بالانضمام إلى الصليبيين[20]، وأدرك ياغي سيان المؤامرة بعد فوات الأوان، وقرر الهروب في مجموعة من الأتراك، غير أن الأرمن من أهل أنطاكية أحاطوا به وقتلوه، وحملوا رأسه إلى الصليبيين[21]؛ لتسقط بذلك كل عزيمة عند الشعب المسلم والجنود على حد سواء.
سقوط أنطاكية
سادت موجة من الذعر هائلة في داخل أنطاكية، وانطلق الصليبيون يستبيحون المدينة بعد الحصار الطويل، وقتل من الرجال والنساء والأطفال ما يخرج عن حد الإحصاء، وسبيت أعداد هائلة من النساء والأطفال[22]، وسرعان ما ارتفعت أعلام بوهيموند النورماني على أسوار أنطاكية وأبراجها.
لقد كان سقوطًا مروعًا هزَّ العالم الإسلامي بأسره، كما هزَّ العالم المسيحي.
إنها المدينة القديمة الجميلة الحصينة التي تحمل تاريخًا إسلاميًّا مسيحيًّا طويلاً، ثم إنه السقوط المروع بعد حصار أكثر من سبعة أشهرٍ متصلة، ثم إنها المذبحة الهائلة التي سقط فيها عشرات الآلاف من المسلمين[23]!
وأسرع الصليبيون لدفن الجثث المتراكمة؛ لئلا تنتشر الأوبئة في المدينة فتُهلِك الجيش بأكمله، وبدءوا أيضًا في الانتشار في الحصون والأبراج، وسيطروا سيطرة كاملة على مداخل المدينة ومخارجها[24].
الجيوش الإسلامية تحاصر الصليبيين
في هذه الأثناء كان كربوغا يتحرك بجيشه من الرها بعد أن يَئِس من إسقاطها، ثم توقف في مرج دابق على بُعد 650 كيلو مترًا تقريبًا من أنطاكية، حيث عقد اجتماعًا مع بعض رءوس الإمارات من الأمراء والملوك ليكوِّن جيشًا كبيرًا لإنقاذ أنطاكية، وكان جيش كربوغا هذا مرسَلاً من قِبل بركياروق سلطان السلاجقة وأقوى الشخصيات السلجوقية في ذلك الوقت؛ لذلك أذعن لكربوغا عدد كبير من الأمراء منهم دقاق صاحب دمشق، وأرسلان تتش صاحب سنجار، وجناح الدولة أمير حمص وغيرهم، غير أن رضوان صاحب حلب رفض الخروج في جيش فيه أخوه دقاق عدوه اللدود[25]!!
وهكذا خرج الجيش السلجوقي الكبير إلى أنطاكية، ووصل إليها بعد حوالي ستة أيام من سقوطها، وحاول كربوغا اقتحام المدينة ولكنه فشل لحصانتها[26]، فقام بضرب الحصار حولها، لتنقلب الآية؛ فالصليبيون داخل أنطاكية محصورون، والمسلمون من خارجها مُحاصِرون لها! وقد بدأ هذا الحصار في 8 من يونيو 1098م[27].
وعاش الصليبيون معاناة حقيقية، فالمدينة كانت قد خلت تقريبًا من الغذاء بعد حصار المسلمين بها مدةَ سبعة أشهر متصلة، وشعر الصليبيون بالندم لقدومهم إلى الشرق، وقد صاروا على أبواب مجاعة مهلكة، وقد اضطروا إلى أكل الميتة وورق الشجر[28]!
ماذا يفعل الصليبيون في هذا الموقف العصيب؟ لقد فكَّر الصليبيون في الاستعانة بالإمبراطور البيزنطي؛ إنها حياة المصالح.
إنهم يحتاجون إليه الآن، فلا مانع عندهم من التزلف مرة ثانية، والتملق، والنفاق!
النجدة البيزنطية للصليبيين
وجد الإمبراطور البيزنطي هذه الاستغاثة الصليبية فرصة لامتلاك أنطاكية المحبوبة، فخرج بنفسه على رأس جيش كبير مخترقًا آسيا الصغرى صوب أنطاكية، لكنه في الطريق وصلته أنباء بكبر حجم الجيش السلجوقي، وبكونه مؤلَّفًا من أكثر من إمارة، فخاف على نفسه وسلطانه، وقال: إن حماية القسطنطينية والبيزنطيين أعظم عنده ألف مرة من حماية أنطاكية والصليبيين. فقرر الرجوع فجأة، وعبثًا حاول رسل الصليبيين إثناءه عن رأيه، ولكنهم فشلوا[29]!
إن القضية ليست دينية أبدًا!
إن كل زعيم من هؤلاء لا يهتم إلا بملكه وعرشه!
ماذا فعل بوهيموند؟
ساء وضع الصليبيين أكثر؛ وبعد 4 أيام فقط من الحصار بدأ الصليبيون يتركون مواقعهم الأمامية في المقاومة من الإجهاد والتعب، ويتجهون إلى البيوت في داخل المدينة. وهذا يوضِّح روح اليأس والإحباط التي سيطرت على الصليبيين، وواجه بوهيموند الموقف بصلابة نادرة. إنه يرى حُلمه ينهار، ويرى أنطاكية الجميلة تضيع من يده بعد كل هذا الجهد، بل يرى حياته وحياة جنده على مقربة من النهاية، فماذا فعل بوهيموند؟! لقد أحرق الدور والبيوت الداخلية، وذلك في (491هـ) يوم 12 من يونيو 1098م؛ ليجبر الجنود على تركها والعودة إلى مواقعهم الأمامية[30].
لقد كان قائدًا من طراز عجيب! ومع ذلك فالقبضة الإسلامية محكمة حول أنطاكية.
وكان من الممكن أن تكون نهاية جيوش الصليبيين بكاملها، لولا الأحداث المؤسفة التي حدثت في داخل الجيش الإسلامي!! ليتيقن المسلمون من الحقيقة القائلة: "إن أعداءنا لا يُنصرون علينا بقوتهم، ولكن بضعفنا!".
ماذا حدث في الجيش الإسلامي؟!
لقد شعر كربوغا أن جيشه وإن كان كبيرًا إلا أن جيوش الصليبيين أكبر، ولو حدث وخرج الصليبيون للقتال فقد تدور الدائرة على المسلمين إن طال الحصار، ففكر كربوغا أن أفضل طريقة لتقوية الجيش الإسلامي هي إعادة فتح التفاوض مع رضوان بن تتش أمير حلب لينضم إليهم بجيشه؛ فجيش حلب كبير، ورضوان نفسه كفاءة عسكرية معروفة، والأهم من ذلك أن حلب مدينة قريبة وغنية جدًّا، وتستطيع إمداد الجيش الإسلامية بالمؤن اللازمة والسلاح وأدوات الحصار.
كانت هذه فكرة كربوغا، وهي فكرة صائبة لا شك، لكنها لا تصلح مع هذه الزعامات الفارغة. إن الأمر وصل إلى إثارة قلق دقاق نفسه[31]، وغضب من كربوغا، وحدث الشقاق والخلاف في الجيش المسلم، وأعلن دقاق عن رغبته في العودة إلى دمشق، وخاصةً أنه كان يخاف من توسع العبيديين في جنوب الشام[32]، وهذا -ولا شك- خلق جوًّا من التوتر في الجيش الإسلامي.
وأضاف إلى هذا التوتر خوف جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص من انتقام يوسف بن أبق أمير الرَّحبة ومَنْبِج الذي كان مواليًا لرضوان، فاعتبر جناح الدولة وجوده في الجيش الإسلامي عداءً لرضوان وحلفائه، ومن ثَمَّ عاش في توتر كبير أثَّر في معنويات الجيش بكامله[33].
لقد ذاق المسلمون ثمرات الوَحْدة المؤقتة التي حدثت بينهم، وانكمش الصليبيون داخل أنطاكية، وكانوا على أبواب الهلكة، والآن ها هم يتفرقون ليذوقوا ويلات التشتُّت والتشرذم! يقول تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 150].
ثم زاد الطينة بلة، وعظمت الكارثة بظهور فتنة عنصرية في الجيش، حيث نشأ خلاف بين العنصر التركي والعنصر العربي في الجيش، وكان على رأس الأتراك كربوغا قائد الجيوش وأمير الموصل، وكان على رأس العرب أمير اسمه وثاب بن محمود المرداسي، وثارت فتنة زكَّاها رضوان من بعيدٍ برسائله المحفزة للتركمان ضد العرب[34]! يقول رسول الله : "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنَ الْجِعْلاَنِ التي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ"[35].
كان هذا هو الوضع في الجيش الإسلامي!
بوهيموند وخدعة الحرب
ونعود إلى داخل أسوار أنطاكية؛ لقد شعر بوهيموند -رغم عناده وإصراره- بقرب النهاية, فأرسل في يوم 27 من يونيو 1098م -بعد تسعة عشر يومًا من الحصار- سفارة إلى كربوغا من رجلين أحدهما بطرس الناسك، يعرض عليه فك الحصار وتأمين الجيوش في سبيل رحيلها[36]. وعلى الرغم من التفكك الذي كان في جيش كربوغا إلا أنه خاف أولاً من خيانة بوهيموند وهي خيانة متوقعة، ثم إنه شعر بضعف الصليبيين فطمع في القضاء عليهم تمامًا في معركة فاصلة. ويبدو أنه لم يقدر مدى الضعف الذي يسيطر على جنود الجيوش الإسلامية وقادتها. وهكذا رفض كربوغا السفارة، ومن ثَمَّ لم يعد أمام بوهيموند إلا قرار الحرب، والحرب السريعة قبل أن يهلك الجيش الصليبي من الجوع.
نظر بوهيموند في جيشه فوجد حالتهم النفسية في الحضيض، فأراد أن يرفع من معنوياتهم، ويرسخ عندهم مفهوم النصر الأكيد في المعركة القادمة، فماذا فعل؟!
لقد أشاع بواسطة كاهن من أهل مرسليا اسمه بطرس برتولوني أن القديس أندراوس الرسول ظهر لهذا الكاهن في الحلم ثلاث مرات ليدله على مكان في كنيسة القديس بطرس بأنطاكية، دفنت فيه الحربة التي طعن بها المسيح ، وأنهم إذا حفروا ووجدوا الحربة فإنهم يحملونها أمام جيوشهم، وهذا الجيش يتحقق له النصر لا محالة!
ثم كان من بوهيموند أن أمر الكاهن وبعض الرهبان بالحفر للبحث عن الحربة المزعومة، ثم أخرجوا حربة من الحَفْر، وقالوا: إن هذه معجزة، وإن هذا الجيش منصورٌ[37]!
وبالطبع فإن هذه قصة لفَّقها بوهيموند وأتباعه لتحميس جيشه، ولا يُقِرُّ عامة المؤرخين بصدق هذه الحادثة، ولا غرابة فهؤلاء القساوسة الذين لفَّقوا الحكاية يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله. وعندنا في عقيدتنا يقينٌ أن المسيح لم يُقتل أصلاً، يقول تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].
فهذه الحربة -ولا شك- فِرْية أرادوا بها رفع معنويات المقاتلين الصليبيين، وقد تحقق لهم مرادهم، وعادت لكثيرٍ من الجند الحماسة، وقرروا الخروج من اليوم التالي مباشرة لحرب المسلمين.
هزيمة نكراء
وفي صبيحة اليوم التالي 28 من يونيو 1098م بدأ الصليبيون في الخروج من المدينة للقتال، وأشار المسلمون على كربوغا أن يبدأ في قتالهم قبل أن يكتمل خروجهم، إذ كانوا يخرجون في جماعات صغيرة، غير أنه رفض وأصرَّ على اكتمال خروجهم ثم يبدأ بقتالهم؛ يقول بعض المؤرخين: إن هذا ضيَّع عليه فرصة قتالهم منفردين. ولكن يبدو أنه كان يريد خروجهم بالكامل حتى لا يبقى أحد منهم بداخل المدينة متحصنًا، فخشي إن قاتل الجماعات الصغيرة التي تخرج أن يمتنع بقية الجيش من الخروج[38].
ومن الواضح أن كربوغا كانت تملؤُه الثقة بالنفس والاعتزاز بالأعداد التي معه، وأغراه حالة البؤس التي كانت عليها الجيوش الصليبية بعد الحصار الطويل، وأيضًا طلبهم منه أن يرفع الحصار. كل ذلك أدى إلى تركه لهم حتى اكتمل عددهم، ورتبوا صفوفهم تحت قيادة كل زعمائهم، وكان ريمون الرابع يتقدمهم وهو رافع للحربة المزعومة.
ودارت معركة شرسة جدًّا أمام أسوار أنطاكية، وكانت الغلبة في البداية للمسلمين، لكنَّ الصليبيين كانوا يقاتلون قتال حياة أو موت، وعلى العكس كان المسلمون يقاتلون للحفاظ على ملكهم وثرواتهم، ومَن قاتل على هذه النوايا فهو لا يريد أن يموت، وهي نوايا لا تصلح أبدًا لجيش مسلم يريد الانتصار. وما أعظم ما قاله رسول الله وهو يحفز جيشه ليلة بدر على القتال في صبيحة اليوم التالي! فكان يقول لهم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يُقَاتِلُهُمْ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"[39].
إنه في هذا الموقف لا يشجعهم على الحفاظ على حياتهم، لكن يشجعهم على بذلها في سبيل الله، ولا يجعل همهم غنائم العدو أو بلاده، ولو كانت هذه البلد هي مكة المكرمة، ولكن يجعل همهم دخول الجنة. وشتَّان بين كل ما رأيناه من رسول الله في ليلة بدر، وما حدث في يوم 28 من يونيو 1098م؛ إذ ما لبث الزعماء المسلمون أن تزعزعوا، وبدأ كل منهم يحاول النَّأْي بنفسه وجيشه، وكان من أوائل الذين فروا التركمان بما فيهم دقاق ملك دمشق، وثبت جناح الدولة فترة ثم أسرع بالفرار هو الآخر، ثم فرَّ في النهاية كربوغا نفسه[40]، وأسرع المسلمون في كل اتجاه، وكانت الأوامر من قادة الصليبيين ألا يلتفت الجيش إلى الأسلاب والغنائم وإنما يتتبعون المسلمين.
قلعة وحصن حارموهكذا تمت مطاردة شرسة لمسافة ثلاثة كيلو مترات شرق أنطاكية حتى حصن حارم[41]، قُتل فيها عدد كبير من المسلمين، ثم عاد الصليبيون ليجمعوا ما لا يحصى من الغنائم والمؤن والسلاح، ووصل كربوغا في فراره إلى الموصل، وكذلك دقاق إلى دمشق.
لقد كانت مأساة حقيقية لهذا التجمُّع الإسلامي!
وما أشد الشَّبه بين هذه التجمعات الفاشلة التي رأيناها، وبين تجمع الجيوش العربية لحرب اليهود في سنة (1367هـ) 1948م في فلسطين؛ فالجيوش لم تخرج لله، ولم تخرج لتكون كلمة الله هي العليا، ولا تعرف قرآنًا ولا سنة، إنما خرجت لذرِّ الرماد في العيون، أو للحفاظ على مُلك بائدٍ، أو لأخذ نصيب من الأرض، ومَن كانت هذه نواياه فلا يتحقق له نصر أبدًا.
ولنا في التاريخ عبرة!
د. راغب السرجاني