تشهدُ البشريّة اليوم حربًا
عنيفةً وسجالاً محتدمًا بين الّلغات، فالدّول الكبرى والمتقدّمة تبذل كلّ
غالٍ ورخيصٍ لتعميم لغتها وثقافتها في أكثر البلدان، وقد أثّرت هذه
الظّاهرة سلبًا على الّلغة العربيّة؛ إذ قلّ الرّاغبون في تعلّمها، وكثُرت
الشّائعات حولها من أنّها لغةٌ معقّدةٌ وعصيّةُ على الفهم، إذ تتشعّب موادّ
الّلغة العربيّة كالنّحو، والتّصريف، والّلهجات، والأصوات، والمعاجم، وفقه
الّلغة، وعلم الّلغة، وعلم الدّلالة، وعلم البيان، والبديع، وغيرها، على
عكس الّلغات الأخرى التي لها قواعد يسيرة؛ فيقولون: إن هذا يُصعّب الّلغة
العربيّة، ويتناسون بأنّها محمدةٌ ومنقبةٌ ولذا جعلها الله لسان أهل الجنة
وأنزل بها كتابه.
إنّ الوعي العميق بأهمية هذا الموضوع هو الدافع لبيان فضل العرب، وكمالُ
لغة لسانهم، والعنايةُ باللسان العربي هو سرّ بقائنا ورقيّنا، وسرُّ انتشار
الإسلام في ربوع المعمورة، واللغةُ العربية باعثةُ الحضارة العربية، وما
أنزل القرآن بلغة العرب؛ إلاّ لأنها أصلح اللغات، ففيها جمع معانٍ، وإيجاز
عبارة، و لها سهولة جري على اللسان، وجمال وقع في الأسماع، وسرعة حفظ.
قال الله - تعالى -: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ *
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" (الشعراء: 192-195)
فوصفه الله - تعالى - بأبلغِ ما يُوصف به الكلام وهو البيان، وارتبطت اللغة
العربية بهذا الكتاب المُنَزَّل المحفوظ، فهي محفوظة ما دام محفوظًا،
فارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم؛ كان سببًا في بقائها وانتشارها حتى
قيل: لولا القرآن ما كانت عربية.
عَرَفَ عظمة اللغة العربية مَنْ اطّلع عليها وتعلّمها وغاص في أسرارها
قديمًا وحديثًا، ولا عجب في أنْ يشهدوا بعظمتها لأنهم أهل اللغة، واطّلاعنا
على أقوالهم يزيدنا علماً وثقةً بها، لكنّ الاطّلاع على شهادات غير العرب
في العربية له طَعْمٌ آخر، لأنّهم عرفوا قيمةَ لغتنا وهم ليسوا منّا، وهو
ما يدفعنا إلى محاولة معرفة ما عرفوه منها، لنزداد اعتزازاً بها ونغرسه في
نفوس أبنائنا لأنّ كثيراً من أبناء المسلمين يجهل فضل لغته وجوانب عظمتها،
فترى كثيراً منهم يقف في صفّ الأعداء - دون أن يقصد - لجهله بها، فهو
مقتنعٌ بأنّ العربية لغةٌ متخلّفةٌ صعبةٌ تخلو من الإبداع والفنّ، بسبب
جهله، وفي الجانب الآخر ترى بعض العجم من غير المسلمين وهو يكيل المديح
والإشادة بالعربية؛ لما رآه فيها من مواطن العظمة. من أجل هذا الواقع المرّ
نحتاج جميعاً إلى ما يزيدنا قناعةً واعتزازاً بها.
وهذه بعض من أقوال العرب والغرب في فضل العربية:-
1/ قال ابن تيميّة رحمه الله :" فإنّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون "
اقتضاء الصراط المستقيم ص 203
2/ قال ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله :" وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف
كلام العرب ، فعرف علم اللغة وعلم العربية ، وعلم البيان ، ونظر في أشعار
العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ، ورسائلها ... "
الفوائد ص 7
3/ قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله :" ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ ، ولا
انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر
لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة ، ويركبهم بها ، ويُشعرهم عظمته فيها ،
ويستلحِقهم من ناحيتها ، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ : أمّا
الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً ، وأمّا الثاني فالحكم على
ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً ، وأمّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال
التي يصنعها ، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ ".
وحي القلم 3/33-34
4/ قال المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس :" إنّ في الإسلام سنداً هامّاً
للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على
نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة ، كاللاتينية حيث انزوت تماماً بين
جدران المعابد، ولقد كان للإسلام قوة تحويل جارفة أثرت في الشعوب التي
اعتنقته حديثاً ، وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب
فاقتبست آلافاً من الكلمات العربية ازدانت بها لغاتها الأصلية فازدادت قوةً
ونماءً .
والعنصر الثاني الذي أبقى على اللغة العربية هو مرونتها التي لا تُبارى ،
فالألماني المعاصر مثلاً لا يستطيع أن يفهم كلمةً واحدةً من اللهجة التي
كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة ، بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم
آداب لغتهم التي كتبت في الجاهلية قبل الإسلام " . الفصحى لغة القرآن -
أنور الجندي ص 301
5/ قال المستشرق الألماني يوهان فك "إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا
بمركزها العالمي أساسياً لهذه الحقيقة الثابتة ، وهي أنها قد قامت في جميع
البلدان العربية والإسلامية رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة
والمدنية ، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة
يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر ، وإذا صدقت البوادر ولم
تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية
الإسلامية". ( الفصحى لغة القرآن - أنور الجندي ص 302 )
أســأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يزيدنا علماً وعملاً، وأن
يرزقنا الإخلاص فيه إنه قريب مجيب، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى
أله وصحبه أجمعين
بقلم الدكتور / الزبير بن محمد أيوب