فلما استقر أمر المسلمين أخذوا يرسلون سراياهم المسلحة تجوس خلال الصحراء المجاورة، وتخترق طريق القوافل المارة بين مكة والشام، وتستطلع أحوال القبائل الضاربة هنا وهناك.
1- ففي رمضان من السنة الأولى التقى "حمزة بن عبد المطلب" في ثلاثين من المسلمين، بأبي جهل يقود قافلة لقريش، ومعه ثلاثمائة راكب، وقد حجز بينهما مجدي بن عمرو الجهني فلم يقع قتال.
2- وفي شوال من السنة نفسها، سار عبيدة بن الحارث في ستين راكباً إلى وادي رابغ ، فالتقى بمائتي مشرك على رأسهم أبو سفيان، وقد ترامى الفريقان بالنبل ولم يقع قتال.
3- وفي ذي القعدة خرج "سعد بن أبي وقاص" في نحو عشرين رجلاً يعترض عيراً لقريش ففاتته.
4- وفي صفر من السنة الثانية خرج الرسول بنفسه بعد أن استخلف سعد بن عبادة على المدينة ، وسار حتى بلغ ودّان يريد قريشاً وبني ضمرة، فلم يلقَ قريشاً وعقد حلفاً مع بني ضمرة.
5- وفي ربيع الأول من السنة نفسها خرج الرسول على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى "بواط" معترضاً عيراً لقريش يقودها أمية بن خلف ومعه مائة من المشركين ففاتته.
6- وفي جمادى خرج إلى العشيرة من بطن "ينبع" وأقام شهراً صالح فيه بني مدلج.
7- ثم أغار كرز بن جابر الفهري على المدينة واستاق سرحها، فخرج النبي في طلبه حتى بلغ وادي سفوان قريباً من "بدر" فلم يدركه، ويسمي المؤرخون هذه "غزوة بدر الأولى".
والحكمة في توجيه هذه السرايا على ذلك النحو المتتابع تتلخص في أمرين:
أولهما:
إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم. ذلك الضعف الذي مكن قريشاً في مكة من مصادرة عقائدهم وحرياتهم واغتصاب دورهم وأموالهم، ومن حق المسلمين أن يعنوا بهذه المظاهرات العسكرية على ضآلة شأنها، فإن المتربصين بالإسلام في المدينة كثرٌ، ولن يصدهم عن النيل منه إلاّ الخوف وحده. وهذا تفسير قوله تعالى:
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}.
والصنف الأخير هم المنافقون الذين يبطنون البغضاء للإسلام وأهله، ولا يمنعهم من إعلان السخط عليه إلا الجبن وسوء المغبة، أما الأولون فهم المشركون ولصوص الصحراء وأشباههم ممن لا يبالون -لولا هذه السرايا- الهجوم على المدينة واستباحة حماها.
وقد كان من الجائز أن تتكرر حادثة "كرز بن جابر" السابقة، ويتجرأ البدو على تهديد المدينة حيناً بعد حين؛ غير أن هذه السرايا الزاحفة قتلت نيات الطمع وحفظت هيبة المسلمين.
والأمر الآخر:
-في حكمة بعث السرايا- إنذار قريش عقبى طيشها.
فقد حاربت الإسلام ولا تزال تحاربه، ونكلت بالمسلمين في مكة ، ثم ظلت ماضية في غيها، لا تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل في دين الله، ولا تسمح لهذا الدين أن يجدد قراراً في بقعة أخرى من الأرض، فأحب الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) أن يشعر حكام مكة بأن هذه الخطة الجائرة ستلحق بهم الأضرار الفادحة، وأنه قد مضى -إلى غير عودة- ذلك العصر الذي كانوا يعتدون فيه على المؤمنين وهم بمأمن من القصاص...
والمستشرقون الأوروبيون ينظرون إلى هذه السرايا كأنا ضرب من قطع الطريق، وهذه النظرة صورة للحقد الذي يعمي عن الحقائق، ويتيح للهوى أن يتكلم ويحكم كيف يشاء.
وقد ذكرني هذا الاستشراق المغرض بما حكوه عند قمع الإنكليز لثورة الأهلين في أفريقيا الوسطى -مستعمرة كينيا- وهم يطلبون الحرية لوطنهم ويحاولون إجلاء الأجانب عنه...
قال جندي إنكليزي لآخر -يصف هؤلاء الإفريقيين-:
إنهم وحوش، تصوَّر أن أحدهم عضّني وأنا أقتله!!! إن هذه الأضحوكة صورة من تفكير المستشرقين في إنصاف أهل مكة والنعي على الإسلام وأهله...