وحين بلَغ عائشة أنَّ مولاتها استَلَمَتِ الركنين مرتين أو ثلاثًا، عاتَبَتْها، وقالتْ: لا آجرك الله، لا آجرك الله، تُدافعين الرجال، ألا كبَّرْتِ ومَرَرْتِ.
وجاء في "أخبار مكة"؛ للفاكهي، عن إبراهيم النخعي، قال: نَهَى عمر أنْ يَطُوفَ الرِّجالُ مع النساء، ورأى رجلاً يَطُوف مرةً مع النساء، فضَرَبَه بالدِّرة.
فهل يصحُّ بعد هذا أن يُسْتَدَلَّ بفِعْل السلَف في الطواف على مشروعية الاختلاط، ومجاورة المرأة للرجل في التعليم والعمل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
رابعًا: دَنْدَنَ المدافعون على جواز الاختلاط: بأنَّ مفردة الاختلاط لَم توجدْ في الكتاب والسنة، وإنما انحدرتْ من أدبيات الخطاب الصحوي - كما يعبِّرون - وأن المُحَرَّمَ فقط هو الخلْوة دون الاختلاط.
فيا دعاة التلبيس:
تحريم الاختلاط ليس نتاج الفكر الصحوي، بل هو فتوى كل عالِمٍ راسخ، عرفته بلادُنا؛ كابن إبراهيم، وابن حميد، وابن باز، وابن عثيمين، وكل مَن أتى بعْدهم مِن أهْلِ العلْم، وفي تراثنا الفقهي والعلمي عبارات كثيرة، وكثيرة جدًّا، تَنُصُّ على نقطة الاختلاط.
فليست من بدَع فترة الثمانينات كما يزعمون، ولو سَلَّمْنا جدلاً أنَّ لفظة الاختلاط محدَثة، فالعبرَةُ بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ومنَ المقَرَّرِ عند أهل العلم أن الشارع ينْهى عن الأدنى؛ ليدلَّ بمفهومِه على الأعلى.
فالشرعُ حين نهى عن قول: "أفٍّ" للوالدين، نهى أيضًا عمَّا هو فَوْق ذلك منَ السبِّ والضرب، وإن لَم ينطق به الكتابُ الحكيم، بل دلَّ ذلك بدلالة المفهوم.
وقلْ مثل ذلك في الاختلاط، فهل المظنون بالشَّرْع أنْ ينْهى عن خروج المرأة متعَطِّرة، ثم يأذن لها أن تخالِطَ الرجال في المتْجر والعمل، والقاعة والمعمل؟! هل الشرْعُ الذي نهى أنْ تَضْرِبَ المرأةُ برجلها ليُعْلم ما تخفي عن زينتها، يأذَن لها بعد ذلك أن تجلسَ بِجِوارِ الرِّجال جنبًا إلى جنب؟!
خامسًا: وإن تَعْجَب فعَجَبٌ قولُهم: إنَّ عزْل الرجال عن النساء سبَّبَ سعارًا جنسيًّا في المجتمعات المنغلقة، فأصبح الرجل لا يرى في المرأة إلا المعاني الجنسيَّة، بخلاف المجتَمَعات المتَحَرِّرة المنفتحة، فقد تَعَوَّدُوا على هذه المناظر وألفوها، فأصبح الرجل لا يرى في المرأة صور الجنْس، وحق لنا أن نسأل ونتساءل: يا رواد التحضر، فسِّرُوا لنا تلك الإحصائيات المتجَدِّدة، والأرقام المهولة، عن حالات اغتصاب النساء في البلدان المتطَوِّرة المتَحَضِّرة! لماذا يكثر الاغتصاب هناك، مع أن الوصول إلى الحرام سهل مُيَسَّر؟! لماذا يكثر الشذوذ الجنسي، وتكثر الأمراض الجنسية المعدية عندهم أكثر من غيرهم؟! أليسوا غير معقدين، ولا مكبوتين جنسيًّا؟!
سادسًا: بعض الأصوات والأقلام قد شرقتْ وغربت، فناقشت قضية الاختلاط بمثالية مُفرطة؛ فالطالبات والطلاب في سلك التعليم بمنأى عنْ مزالق الفاحشة؛ لأنَّ عقولَهم قد نضجتْ، وأخلاقهم قد كملت، وأهدافهم قد سمتْ؛ فالاختلاط هنا مسألة هامشية، ثم يطالبون أهل العلم بعَرْض قضية الاختلاط بواقعية، دون تشنُّج أو تخوُّف، فهل نسي هؤلاءِ الواقعيون أو تناسَوا أن الميل البشري بين الجنسين مركُوز في الفِطَر، يجدُه كلُّ إنسانٍ عليم، بل وحتى كل حيوان بهيم؟! هل المبالَغة في إحسان الظن، والتعويل على الأَخْلاق من الواقعية؟! وإذا كان الحديث عن الواقعية، فلماذا نتجاهَل واقع الاختلاطِ في بعْضِ الدول التي لا تَمْنع الاختلاط، مع صرامة القوانين هناك؟!
فيا أدعياء الواقعية:
الواقع والحال والسُّنَن تنطق: إنَّ اختلاط الشباب بالشابات يُحَرِّك عقارب الفتْنة في الصُّدور، ويزْرَع بذْرة الشهوة والعلاقات المحرَّمة، ثم مَن أعلم بالواقِع، وما يُصْلِح البَشَرَ مِن ربِّ البشرِ؟! {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فقد قال - سبحانه - عنْ نساء النبي: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، قال هذا عن نساء النبي الطاهرات، ولِمَن؟ لأَطْهَر جيلٍ عرفه التاريخ.
قال ابن القيم - رحمه الله -: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصْلُ كلِّ بليَّة وشر، ومِن أسباب نُزُول العقوبات العامة، كما أنَّه من أسباب فساد أُمُور العامة والخاصة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27].
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى.
أما بعدُ:
فيا إخوة الإيمان:
وتبلغ الانتهازية غايتها، حين تربط مسألة الاختلاط بقضايا الحِفاظ على الأمن، ومَصْلحة الوَطَن، فيزعم من يزعم أن إنكار أهل العلم على الاختلاط يُغذي فِكْر الغُلُو والتَّشَدُّد في المجتمع، هذه الانتهازيات والاستغلاليات أصْبَحَتْ مكشوفةً وممجوجة، فلا مُزايدة على مَوْقف العلماء ودورهم في حِفْظ أمن البلد وإيمانه.
هؤلاءِ العلماء الذين أنْكَرُوا الاختلاط ديانة وتوقيعًا عن رب العالمين، هم همْ العلماء الذين أعْلوا الصوت في مُواجهة مسالك الغُلُو والتطرُّف، وهم العلماء الذين كانوا - ولا زالوا - يحرصون على وَحْدة الصف، وجَمْع الكلمة، ورأب الصدع، والسير بالمجتمع إلى ما فيه الخَيْر في الدين والدنيا، فكيف يكون الطالب مطلوبًا؟!
بل لا يبالغ كلُّ عاقل ومتابع: أن مثل هذه الأُطْرُوحات التي تخالف الدين وعادات المجتمع، تصبُّ في تغذية الغُلُو في الجانب الآخر، فيجد أهْلُ الغُلُو مُبَرِّرًا لِمَسْلكهم؛ بسبب ما يَرَوْنه من فجور فكري، وتسلق على مُسلمات الشريعة، وجرْأة على الدين.
ثم هل من مصلحة البلد ووحدة الوطن استنقاص أهل العلم وتسفيههم وتقزيمهم؟!
هل هذه الحملات المنظَّمة المنسَّقة تصبُّ في مصلحة بلدنا؟! أو في مصلحة مَنْ شَرَعَ إعلامه في معاملتنا الآن؟!
ما جفَّت محابر مؤسسة راند الأمريكية، والتي أَوْصَتْ قبل سنتين بأهمية اختراق المجتمَعَات الإسلامية المحافِظة، من خلال التهوين من شأن العلماء، ومحاولة إسقاط مكانتهم في نفوس الناس، والإضرار برسالتهم - حتى رأينا حملات غير أخلاقية تتخطف أهل العلم واحدًا بعد آخر.
وأخيرًا عبادَ الله:
إذا لم يَسَعْ هؤلاءِ نصوص الوَحْيَيْن، وفتاوى العلماء الرسميين، أفلا يسعهم نصائح مؤسِّس هذا البلد، وتحذيره من الاختلاط؛ حيث قال - رحمه الله - ما نصه: "وأقبح مِن ذلك في الأخلاق ما حصَل من النساء في أمر اختلاط النساء، بدعوى تهذيبهن وترقيتهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها، حتى نبذن وظائفهن الأساسية، إلى أن قال: فلا والله ليس هذا التمدن في شرعنا، وعرفنا، وعاداتنا، ولا يرضى أحدٌ في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أو إسلام أو مروءة - أن يرى زوجته، أو أحدًا من عائلته، أو من المنتسبين للخير في هذا الموقف المخزي.
هذه طريقة شائكة تدفع بالأمة إلى هوة الدمار، ولا يقبل السيْر عليها إلا رجل خارج من دينه، خارج من عقله، خارج من عربيَّته.