أصدر مفتي مصر الدكتور علي جمعة فتوى مستنيرة خالف فيها جمهور الفقهاء حين أكد في محاضرة ألقاها أخيراً بمكتبة مصر الجديدة أن دية المرأة مساوية للرجل ومن يحكم بغير هذا فقد ظلم المرأة. وطالب الدول الإسلامية التي تطبق الدية في قوانينها بأن تلغي التفرقة بين الرجل والمرأة في الدية لأن هذا تكريس لدونية المرأة استناداً إلى تقاليد ظالمة أو تأويل وفهم خاطئين للآيات القرآنية أو الاستشهاد بأحاديث ليست صحيحة. وعلى الفور تفاعلت عالمات الإسلام مع اجتهاد المفتي المصري فماذا قال و ماذا قلن؟ وهل تعيد تلك الفتوى حقاً غائباً للمرأة؟
في البداية يعرف الدكتور جمعة الدية بأنها «المال الواجب لتعويض قتل أو إيذاء نفس أو إيذاء في غير النفس أيضاً. وقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية وهي واجبة على اختلاف أصنافها ذهبًا وفضة وبقرًا وإبلاً، ونرى أن الأنسب في عصرنا هذا هو الأخذ بقيمة أقل صنف من أصناف الدية لما في ذلك من تحفيز الناس على دفعها. ولأن الأصل براءة الذمة مما زاد على ذلك، وذلك متحقق في الفضة ودية الفضة.
عند الجمهور اثنا عشر ألف درهم والدرهم عندهم ٢٫٩٧٥ غرام فضة تقريباً فتكون جملة دية الفضة عند الجمهور خمسة وثلاثين كيلوغراماً وسبعمئة غرام من الفضة. وتكون هذه الكمية بسعر السوق طبقاً ليوم ثبوت الحق رضاء أو قضاء وتتحملها عائلة القاتل أو المعتدي، فإن لم يمكن فيتحملها القاتل، فإن لم يستطع جاز أخذ الدية من غيرهم ولو من الزكاة».
وأضاف المفتي: «يرى مذهب جمهور العلماء أن دية المرأة هي نصف قيمة دية الرجل، وقد استند بعضهم إلى الفروق بينهما في الميراث والشهادة والقوامة، وهذا قياس مع الفارق وليس مطابقاً وبالتالي فيه ظلم للمرأة. ويستندون كذلك الى ما نسب للنبي صلى الله عليه وسلم: «دية المرأة على النصف من دية الرجل». وهناك من حكم بضعف الحديث.
وعلى الجانب الآخر ذهب الأصم وابن علية إلى أن دية المرأة مثل دية الرجل وما دام الأمر خلافياً فلا مانع من الأخذ بأي الرأيين. ويبرر بعض الفقهاء جعل دية الرجل ضعفي دية المرأة أن الرجل يعمل ومسؤول عن أسرة ولهذا لا بد من تعويضه بشكل يكفيه، أما المرأة فهي مسؤولة من غيرها سواء كان زوجاً أو أخاً أو أباً وبالتالي فإن أسرتها لم تتضرر كثيراً مثل الرجل.
وربما كان هذا الوضع موجوداً في الماضي حين كانت المرأة لا تعمل وينفق عليها ولي أمرها، أما الآن فالوضع اختلف فالمرأة تعمل، بل إن كثيرات منهن يُعِلْنِ أسرهن بل ينفقن على الذكور، وبالتالي فإن فقه الواقع يفرض علينا أن نرى تساوي الدية بينهما فهذا أقرب للعدل الذي تنشده الشريعة».
ويكمل مفتي مصر: «أطالب مختلف الدول الإسلامية بتغيير قوانينها للأخذ بالدية إذا لم تكن تأخذ بها أو جعل دية المرأة مساوية للرجل إذا كانت تأخذ بالدية وتجعل دية المرأة نصف دية الرجل، لأن استمرار هذا الوضع فيه نوع من عدم الإنصاف للمرأة مع احترامنا لمن يصرون على رأي مخالف لنا استناداً إلى أدلة شرعية أخرى لأن القضية خلافية.
ولكنني أدعو من يصرون على أن دية المرأة نصف دية الرجل إلى الاطلاع على ما كتبه الدكتور القرضاوي واجتهاد الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق في كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة»، وخاصة ما كتبه تحت عنوان «دية الرجل والمرأة سواء» فعبارة القرآن في الدية عامة مطلقة لم تخص الرجل بشيء منها عن المرأة.
ويؤكد المساواة تفسير المنار للشيخ رشيد رضا والشيخ محمد أبو زهرة في كتابه «الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية» والشيخ محمد الغزالي في كتابيه «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث» و«تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل».
«استوصوا بالنساء خيراً»، وتأكيد لما أعطاها الإسلام من حقوق ما لم يكن يخطر على بالها في أيام الجاهلية ورفع عنها التعسف حتى وصل الأمر إلى نزول سورة كاملة في القرآن سُمِّيت سورة «النساء» ولم توجد سورة باسم الرجال. وقدمها الاسلام على الرجل في باب الحضانة للأولاد وجعل حق الأم في حسن الصحبة مقدماً على الأب، بل الجنة تحت أقدامها، فهذا التكريم المثالي لا يمكن أن يتناسب مع جعل ديتها نصف دية الرجل، خاصة أن كثيراً من الأحاديث التي بنى جمهور الفقهاء رأيهم عليها في موضوع الدية هناك ضعف في بعضها أو طعن في رواتها.
View Pictures
التوصية بالنساء
وتؤيد هذا الرأي العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية الدكتورة عبلة الكحلاوي التي ترى أنها تنفيذ عملي للوصية النبوية للرجال «استوصوا بالنساء خيراً»، وتأكيد لما أعطاها الإسلام من حقوق ما لم يكن يخطر على بالها في أيام الجاهلية ورفع عنها التعسف حتى وصل الأمر إلى نزول سورة كاملة في القرآن سُمِّيت سورة «النساء» ولم توجد سورة باسم الرجال.
وقدمها الاسلام على الرجل في باب الحضانة للأولاد وجعل حق الأم في حسن الصحبة مقدماً على الأب، بل الجنة تحت أقدامها، فهذا التكريم المثالي لا يمكن أن يتناسب مع جعل ديتها نصف دية الرجل، خاصة أن كثيراً من الأحاديث التي بنى جمهور الفقهاء رأيهم عليها في موضوع الدية هناك ضعف في بعضها أو طعن في رواتها.
سوء فهم للنصوص
وترى عميدة كلية الدراسات الإسلامية الدكتورة عفاف النجار أنه من الخطأ قياس دية المرأة بميراثها حيث تأخذ نصف ميراث الرجل، و«الخلل هنا أن الميراث محدد بالنصوص القرآنية وبالتالي فلا مجال للاجتهاد فيه، كما أن الحالة الوحيدة لذلك هي بين الأشقاء والشقيقات، أما في بقية الحالات فإن المرأة تأخذ ميراثاً مثل الرجل أو أكثر منه، وهناك دراسة أكدت أن هذا موجود في قرابة الثلاثين حالة. كما جعل الإسلام القصاص على من قتلها أو أذاها عمداً أو الدية، وهذا ما لم يكن له وجود أيام الجاهلية الأولى. وطالما أن القضية خلافية ولم يرد فيها نص قرآني فإننا نؤيد ما ذهب إليه المفتي في المساواة بين الرجل والمرأة في الدية مع احترامنا لما ذهب إليه الفقهاء القدامى الذين اجتهدوا وفقاً لظروف عصرهم، ولفقهاء الأمة الآن أن يجتهدوا لعصرنا».