افتراضي ابتداء وقوع النصرانية بنجران
فيميون وصالح ينشران النصرانية بنجران
قال ابن إسحاق: فحدثني المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس، عن وهب بن مُنَبِّه اليماني أنه حدثهم:
أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل ديِن عيسى ابن مريم يقال له فَيْمِيون، وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مُجاب الدعوة، وكان سائحا ينزل بين القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يُعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه، وكان بنَّاء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى بها حتى يمسي، قال: وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له: صالح، فأحبه صالح حُبّاً لم يحبه شيئاً كان قبله، فكان يتبعه حيث ذهب، ولا يفطن له فيْميون، حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع وقد أتبعه صالح، وفيْمِيون لا يدري ؛ فجلس صالح منه منُظرَ العين مستخفيا منه، لا يحب أن يُعلم بمكانه، وقام فيميون يصلي فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين – الحية ذات الرءوس السبعة – فلما رآها فيْمِيون دعا عليها ، فماتت، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها ، فخافها عليه ، فعِيل عَوْلَه ، فصرخ: يا فيْمِيون ، التنين قد أقبل نحوك، فلم يلتفت إليه، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها وأمسى، فانصرف، وعرف أنه قد عُرف ، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه ، فقال (له: يا) فيْمِيون ، تعلم والله ما أحببت شيئاً قطُّ حُبَّك، وقد أردت صحبتك، والكينونة معك حيث كنت، فقال: ما شئتُ، أمري كما ترى، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا فاجأه العبد به الضرُّ دعا له فشفي، وإذا دُعى إلى أحد به ضر لم يأته، وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير، فسأل عن شأن فَيْمِيون، فقيل له: إنه لا يأتي أحداً دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك، فوضعه في حجرته، وألقى عليه ثوباً ثم جاءه فقال له: يا فيميون، إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا، فانطلق معي إليه حتى تنظر إليه فأشارطك عليه، فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قال له: ما تريد أن تعمل في بيتك هذا ؟ قال: كذا وكذا، ثم انتشط الرجلُ الثوب عن الصبي ، ثم قال له: يا فَيْمِيون، عبد من عباد الله أصابه ما ترى، فادعُ الله له ؟ فدعا له فَيْمِيون ؛ فقام الصبي ليس به بأس.
وعرف فيميون أنه قد عُرف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل، فقال: يا فَيْمِيون، قال نعم، قال: ما زلت أنظرك، وأقول: متى هو جاء ؟ حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو، لا تبرح حتى تقوم عليَّ فإني ميت الآن، قال: فمات، وقام عليه حتى واراه، ثم انصرف، وتبعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدُوا عليهما، فاختطفتهما سَيَّارة من بعض العرب، فخرجوا بهما، حتى باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على
دين العرب: يعبدون نخلةً طويلة بين أظهرِهم لها عيد في كل سنة، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحُلىَّ النساء، ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يوماً،
فابتاع فَيْمِيونَ رجلٌ من أشرافهم، وابتاع صالحاً آخرُ، فكان فيمِيون إذا قام من الليل يتهجد في بيت له- أسكنه إياه سيده - يصلي استسرج له البيتُ نوراً حتى يصبح من غير مصباح، فرأى ذلك سيده، فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتم في باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده، لأهلكها وهو الله وحده لا شريك له، قال: فقال له سيده: فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما نحن عليه، قال فقام فَيْمِيون فتطهر وصلى ركعتين، ثم دعا الله عليها، فأرسل الله عليها ريحاً فجَعَفَتْها من أصلها، فألقتها، فاتَّبعه عند ذلك أهل "نجران" على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب.
قال ابن إسحاق: فهذا حديث وهب بن مُنَبِّه عن أهل نجران.