الحمدلله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الناس وكفى باللهشهيداً؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً؛وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراًوداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبهوسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد؛ عباد الله :
فإنَّالواجب على المسلم أن يكون مخلصاً بأعماله لله رب العالمين؛ مبتغياً وجهالله بذلك، فالإخلاص من أجلّ العبادات القلبية التي يظهر أثرها على اللسانوالجوارح، وبه يتميز العمل المقبول من المردود، وحقيقة الإخلاص أن يستويعند المسلم الغيب والشهادة؛ والسر والعلانية؛ والجماعة والخلوة، وأنيخلِّص عمله من الشوائب كلها قليلها وكثيرها؛ حتى يتجرد فيه قصد التقربإلى الله؛ فلا يكون فيه باعث سواه .
فكلشيء يُتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص منه سُمِّي خالصاً ولذلكقال يحيى بن معاذ : « الإخلاص تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن منالفرث والدم » .
والإخلاص شرط في قبول الأعمال؛ فإنه لا يُقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجه الله وكان صاحبه متّبعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى:(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)،قالالفضيل بن عياض: « العمل الصالح أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان صالحاًولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتىيكون خالصاً صواباً، والخالص إذا كان لله ﻷ، والصواب إذا كان على السنة».
منأجل ذلك فلا بد للمسلم أن يُفَرِّغ قلبه لخالقه سبحانه فلا يبقى فيه شركلأحد مع الله؛ وأن يخرج حظوظ النفس وملاحظة الخلق من جميع أعماله ظاهراًوباطناً، وهذه منزلة لا يُوَفق إليها إلا من أراد الله ﻷ به خيراً؛ وذلكأن الإخلاص من أشد الأمور على النفس لأنه ليس لها فيه نصيب، وإنما هو بذلالعمل لله دون النظر إلى متاع الدنيا .
والإخلاصقائد إلى أبواب الخير؛ جامع لخصال البر؛ هادٍ إلى سبل الرشاد والنعيمالمقيم في دار الكرامة؛ ويدفع عن أصحابه مصارع السوء؛ ولذلك عظمت الوصيةبه من النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الكرام؛ لأن قيام الأعمال عليه؛ ولن تُقطف ثمرةُ العمل إلا إذا أحسن الغرس؛ وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
فهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم أنصلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد؛ وفساده مستلزم لفساده؛ فإذا رُئيَظاهرَ الجسد فاسداً غير صالح، عُلِم أن القلب ليس بصالح بل فاسد، ويمتنعفساد الظاهر مع صلاح الباطن، كما يمتنع صلاحُ الظاهر مع فساد الباطن؛ إذكان صلاحُ الظاهر وفسادُه ملازماً لصلاح الباطن وفساده ؛ قال سفيان بنعيينة : « كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم لبعض بهؤلاء الكلمات؛ من أصلحسريرته أصلح الله علانيته؛ ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينهوبين الناس؛ ومن عمل لآخرته كفاه الله ﻷ أمر دنياه » .
وقداعتنى السلف بإصلاح السرائر لعلمهم أن إصلاحها ينتج عنه صلاح الأعمالوالأحوال مما يعود عليهم بالنفع في الدين والدنيا، وفي أمر الآخرةوالأولى؛ قال عمر بن الخطاب t لرجل: « عليك بعمل العلانية. قال: يا أمير المؤمنين؛ وما عمل العلانية؛ قال: ما إذا اطُّلِع عليك لم تستحي منه» .
وليستحقيق الإخلاص بالأمر السهل؛ ولذلك كان أشد ما يكون على صاحب العمل؛ قالأيوب السختياني: « تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال»؛ وقال بعض السلف: « في إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز».
وكانسلف الأمة -رحمهم الله- يجتهدون في المحافظة على الإخلاص في أعمالهمبالرغم من تزيُّن الدنيا لهم؛ وبالرغم من كثرة الدواعي التي تدور حولهملإظهار أعمالهم؛ ومع ذلك كانوا شديدي التمسك بحسن النوايا وإخلاص أعمالهملله تعالى؛ فأعقبهم الله ـ رفعة في الدنيا؛ وعلو شأن في العلم والعملوالذكر الحسن؛ لما وافق قلوبهم من الإخلاص؛ قال عبدة بن سليمان: « كنا فيسرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو؛ فلما التقىالصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة؛ فخرج إليه رجلٌ فطارده ساعةفطعنه فقتله؛ ثم آخر فقتله؛ ثم آخر فقتله، فازدحم الناس عليه، وكنت فيمنازدحم عليه، فإذا هو يلثم وجهه بكمه، فأخذْتُ بطرف كمه فمددته، فإذا هوعبد الله بن المبارك؛ فقال: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا؟».
والإخلاصفي النية سبب لجريان الأجر وإن لم يعملِ المسلمُ العملَ الصالح ؛ وقد قالقائل: « دلوني على عمل لا أزال به عاملاً لله تعالى؛ فقيل له: انوِ الخير،فنيَّتُك لا تزال عاملاً وإن لم تعمل؛ فالنية تعمل وإن عُدِم العمل » .
وقال جعفر بن حيان: « ملاك هذه الأعمال النيات ، فان الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله ».
والإخلاص سبب للوقاية من مصارع السوء وموارد الهلاك، وقد جاء في السنة النبوية الشريفة ما يوضح ذلك؛ فقد قال النبيصلى الله عليه وسلم: «انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرتصخرة من الجبل فسدت عليهم الغار؛ فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلاأن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
قالرجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاًولا مالاً؛ فنأى بي طلبُ الشجر يوماً فلم أرِح عليهما حتى ناما؛ فحلبتلهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أومالاً؛ فلبثت -والقدح على يدي- أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبيةيتضاغون عند قدمي؛ فاستيقظا فشربا غبوقهما؛ اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاءوجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعونالخروج منه.
قالالآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، وفي رواية: كنتأحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني؛ حتى ألمتبها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بينيوبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها،قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليوتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّجعنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها .
وقالالثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي لهوذهب، فثمَّرْتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبدالله أدِّ إليَّ أجري، فقلت: كلُّ ما ترى من أجرك- من الإبل والبقر والغنموالرقيق- فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي؛ فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كلهفاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرِّجعنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» .
فهذاالحديث العظيم يبين كيف أن الإخلاص كان سبباً في إنقاذ هؤلاء النفرالثلاثة، حيث توسلوا إلى الله سبحانه بالعمل الصالح الذي أخلصوا فيه للهﻷ؛ففرج الله عنهم بذلك؛ ووقاهم مصرع السوء .
فهذا حثٌّ على الإخلاص وبيانٌ لأهميته؛ فإذا كانت تلك ثمراته الدنيوية من تفريج الكروب؛ فكيف بأجره عند الله ـ يوم القيامة؟ .
فلذاينبغي على المسلم العاقل أن يجاهد نفسه أشد المجاهدة ليُنقِّي أعماله منالشوائب؛ حتى تكون خالصة لوجه الله تعالى؛ ولذا قال بعض السلف:« إن للهعباداً عقلوا؛ فلما عقلوا علموا؛ فلما علموا أخلصوا؛ فاستدعاهم الإخلاصإلى أبواب البر أجمع » .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..