الحمد لله الذي جعل الفلاح في طاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد،
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله جل وعلا فمن اتقاه وقاه وأسعده ولا أشقاه، أيها المسلمون، من مقررات نصوص الوحيين، أن الذنوب سبب كل بلاء وسبيل كل الأهواء، وباعث كل ضراء، كم أزالت من نعم، وجلبت من محن، وأجلبت من فتن، يقول الله جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ويقول جل وعلا: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخبرت به أم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إذا ظهرت المعاصي في أمة أعمهم الله بعذاب من عنده)) الحديث، ويقول ابن القيم – رحمه الله – ذاكرًا قاعدة الكتاب والسنة فيقول: "وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي".
يعاني العالم كله من تحديات متنوعة ومصائب متكاثرة وآفات مختلفة، فها هو العالم كله ينادي مستغيثًا من ارتفاع معدلات الجريمة، ومن كثرة أنواع الجناية في تقارير تذهل وإحصاءات تحير، العالم كله في تغيير من مجتمعاته ينادي باحثًا عن الأمن وأسبابه وعوامله، والمجتمعات الإسلامية وهي في تلك المنظومة تبحث عن الأمن، تبحث عن الاستقرار، تنشد الأمن من كثرة الجرائم الفظيعة، والجنايات المفزعة، التي طالت الضرورات وأضرت بالمقدرات، ألا وإن أعظم فقدان الأمن، وحلول المخاوف والنقم، البعد عن المنهج الإلهي، والمخالفة للمنهج النبوي، فتسود القبائح والمعاصي، يقول ربنا جل وعلا: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4]، ويقول ربنا – جل وعلا – في كلامه العظيم، مصورًا لنا واقعا يعانيه مجتمع اليوم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فالشرور أيها المسلمون لا تدفع إلا بطاعة الله – جل وعلا – {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]، الحفظ من المصائب والمخاوف إنما يكون في حفظ أوامر الله – جل وعلا – في الوصية العظيمة من الحبيب – صلى الله عليه وسلم -: ((احفظ الله يحفظك)) الأمن بجميع أشكاله، والاستقرار بكافة صوره، لا يتحقق إلا بالإيمان بالله - جل وعلا – والالتزام بمرضاته ظاهرًا وباطنًا، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
معاشر المسلمين تجتاح الأرض اليوم في مواقع شتى رزايا، وتحل بها بلايا، زلازل تكبر، وأعاصير تنتشر، وحروب تدمر، كل ذلك ليس بغريب مع انتشار الفواحش، وقسو القبائح، ألم يكثر الزنا وتسهل أسبابه وتزين ذرائعه؟! ألم ينتشر في الفضائيات المسلم منها وغير المسلم ما يدعو للفجور ويزين الشرور من المسلسلات الهابطة والبرامج الساقطة التي خصصت وللأسف من بعض المسلمين، خصصت لتعاليم الموسيقى الفاجرة والأغاني الماجنة؟! كل ذلك على وجه يختلط فيها الشباب بالشابات في موقع واحد أمام الملأ بالفعل القبيح وبلا حياء!! ألم يسهل على بعض المسلمين شرب الخمور بأنواعها، والمخدرات بأشكالها؟! ألم يفشُ في بعض مجتمعات المسلمين التشبه بالكفار وبزي الفجار؟!
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - قد أعذر وأنذر حينما يقول: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير))؛ رواه ابن ماجة وصححه العلماء.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: ((دخلت على عائشة – رضي الله عنها – أنا ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنا وشربوا الخمر وضربوا بالمآذن، غار الله - جل وعلا - في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم، قال: يا أم المؤمنين أعذابا لهم؟ قالت: موعظة ورحمة للمؤمنين، ونكالاً وعذابًا وسخطًا على الكافرين))، قال أنس - رضي الله عنه -: "ما سمعت حديثا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أشد فرحًا به مني بهذا الحديث"، ويقول ابن مسعود – رضي الله عنه -: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله بهلاكها".
معاشر الأمة، يعاني اليوم العالم كله من تدهور في الاقتصاد، وتقاسي مجتمعات المسلمين قدرًا كبيرًا من ذلك، فقر وغلاء يزداد، تضخم مخيف، طبقية مقيتة، ديون تتراكم على كثير من الخلق، فيا عباد الله، الجزاء من جنس العمل، نتذكر هذه المآسي، ونتجرع هذه المصائب، ولا نتذكر أن الربا قد تعامل به أناس في ديار المؤمنين، بل وسهل به عند بعض المسلمين، ناهيك عن بعد من بعضهم عن أحكام الدين في المعاملات التجارية، فالدنيا اليوم هي التي تحكم في كثير من الناس في قيمهم وأخلاقهم.
رسولنا – صلى الله عليه وسلم – يقول محذرًا ومبينا آثار الذنوب خاصة في المعاملات التجارية فيقول: ((إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم))؛ رواه أبو داود بإسناد حسن، وفي المسند ((أنزل الله بهم بلاء لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم))، ويقول عليه أفضل الصلاة والسلام: ((وما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان)).
وفي مثل هذا ذكر عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن محمد بن سيرين، أنه لما ركبه الدين اغتم بذلك فقال: "إني لأعرف هذا الغم في ذنب أصبته منذ أربعين سنة" الله أكبر، إنها قلوب واعية مدركة للمعاني الصحيحة من نصوص الوحيين، اعلم أيها المسلم في كل مكان أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وأن البركة في الرزق وفي كل إنما هي في تقوى الله – جل وعلا – {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96].
إخوة الإسلام، في مواطن من بلدان المسلمين، تقل الأخبار وتجف الآبار، فهل نتذكر ونعتبر بأن بعض المسلمين تساهل في أداء الزكاة، أو منع إخراجها مطلقًا؟! أوليس بعض المسلمين يبيع ثمار النخيل والثمار قبل غدو صلاحها مع علمه بالنهي الأكيد والزجر الشديد لذلك خاصة في مثل هذه الأيام؟!
أيها المسلمون، إن ربنا – جل وعلا – يقول مذكرًا عباده؛ لأن تقوى الله – جل وعلا – مجلبة للرزق، وأن ترك التقوى مجلبة للفقر: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} [الجن: 16]، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، ورسولنا – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا)).
إخوة الإسلام، لقد وقع من الأمراض النفسية ما لا يخفى، وأصيب بعض الناس اليوم بالهموم والغموم والضجر والقلق، ألا وإن للمعاصي وحشة يجدها العاصي في قلبه، لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة العظيمة في القلوب، شكا رجل إلى بعض العباد وحشة يجدها في نفسه فقال له:
إذا كنت قد أوحشتك الذنوب * * * فدعها إذا شئت واستأنس
ولهذا تجد على قلب المرء أمر ولا أقسى من وحشة الذنوب، فإن للمعاصي ظلمات يجدها العاصي بقلبه كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم، فتصير ظلمة المعصية كالظلمة الحسية للبصر، فصاحب المعصية تراه خائفًا مرعوبًا تحيط بها المخاوف والهموم والأحزان من كل جانب، ربنا – جل وعلا – يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، يقول ابن القيم – رحمه الله -: :لا تحسب أن ذلك مقصور على لهيب الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة هم كذلك، أعني دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار". انتهى.
ولهذا أيها المسلمون، فبطاعة الله – جل وعلا – ورضاه عز وجل قرة العيون وسرور النفوس ورضا القلوب ولذة الأرواح وطيب الحياة ولذة العيش وأطيب النعيم مما لو وزن منه مثقال ذرة في نعيم الدنيا لم يفِ به {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد: 28]، يقول صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى: ((أرحنا يا بلال بالصلاة)) ويقول صلى الله عليه وسلم: ((جُعلت قرة عيني في الصلاة)) وإلى هذا المعنى يقول أحد العلماء: ((لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه – أي من طاعة الله جل وعلا ولذتها – لجالدونا عليه بالسيوف)).
إخوة الإسلام، نسمع بين حين وآخر عن أمراض تنتشر وأوبئة تظهر، ومن لا ينطق عن الهوى بين لنا ذلك وحذرنا من هذا الأمر، وبين أن سببه في انتشار الفواحش، وهجو القبائح في حديث عظيم عنه - صلى الله عليه وسلم - يرويه ابن عمر – رضي الله عنه وعن أبيه – قال: ((أقبل علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بوجهه الشريف فقال: يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن ثم ذكر، قال: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى أعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)).
معاشر المسلمين تعاني الأمة الإسلامية من تفرق وتشرذم، بل ودبت بين أبناء بعض المجتمع الواحد العداوة والبغضاء، الحسد والشحناء؛ حتى رفع بعضهم السلاح على بعض واستباح منه الأموال والدماء، فهل نعي أن أسباب هذه المصائب البعد عن منهج الله – جل وعلا، التنكب عن تحكيم الإسلام، واستبداله بالقوانين الوضعية، وتحكيمها بين الأنام، وبالاستعاضة فيها عن القرآن وسنة سيد ولد عدنان – عليه أفضل الصلاة والسلام؟
ربنا جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124]، ويقول صلى الله عليه وسلم في جملة من جمل حديث ابن عمر: ((وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)) إنه دستور عظيم يبين أسباب المخازي التي تقع في الأمة فيقول: ((وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
وفي مراسيل الحسن: ((إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام -: لعنهم الله عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم)).
ألم تضيع شعيرة عظيمة في كثير من مجتمعات الإسلام وهي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ألم يخرج من كتاب المسلمين من يستهزئ بهذه الشعيرة وبرجالها؟ الله - جل وعلا - يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79]، وحينئذ أيها المسلمون خرج من نتائج ذلك فساد كبير في أحوال مجتمعات المسلمين، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع ممن يعملوا ثم لم يغيروه إلا أعمهم الله تعالى منه بعقاب))، وهو حديث سنده صحيح عند أهل العلم، وفي حديث آخر رواه أهل السنن فيه يقول أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – على محضر من الصحابة: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه))؛ سنده صحيح.
بارك الله لي ولكم في القرآن وسنة سيد ولد عدنان – عليه أفضل الصلاة والسلام – أقول قولي هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.