إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70) (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71) أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: اختص الله عز وجل هذه الأمة بخصائص كثيرة، وفضائل جليلة، منها اختصاصُه إياها بيوم الجمعة بعد أن أضلَّ عنه اليهود والنصارى، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ)).م.
قال الحافظ ابن كثير: ( إنما سُميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجَمْع، فإن أهل الاسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعاهد الكبار... وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [الجمعة:9] أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي هنا المشي السريع.. فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نُهي عنه.. ) قال الحسن: ( أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع)[تفسير ابن كثير:4/385، 386]. وقال ابن القيم:( فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان). [زاد المعاد:1/398].
وليوم الجمعة فضائل وخصائص، نذكر الصحيح منها ونترك الضعيف:
-1 أنه خير الأيام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة.م
-2 تضمنه لصلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الاسلام ومن أعظم مجامع المسلمين، ومن تركها تهاونا ختم الله على قلبه كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم.
3- أن فيه ساعة يستجاب فيها الدعاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسل إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه-وقال بيده يقللها".متفق عليه.
قال ابن القيم بعد أن ذكر الاختلاف في تعيين هذه الساعة: ( وأرجح هذه الأقوال قولان تضمنتها الأحاديث الثابتة:
الأول: أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة) م.
والقول الثاني: أنها بعد العصر، وهذا أرجح القولين). [زاد المعاد:1/390،389].
والصحيح أن قوله: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة هو من كلام أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه-، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عنه أنه قال: ((وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يومُ الجمعة اثنتا عشرةَ ساعة لا يوجَد عبد مسلم يسأل اللهَ عز وجل شيئا إلا آتاه إياه فالتمسوها آخرَ ساعة بعد العصر)) . رواه أبو داود والنسائي واللفظ له والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وهو كما قال)).[صحيح الترغيب: 703].
قال الإمام عبد العزيز بن باز-رحمه الله-: " آخر نهار الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس هو من أوقات الإجابة في حق من جلس على طهارة ينتظر صلاة المغرب ، فينبغي الإكثار من الدعاء بين صلاة العصر إلى غروب الشمس يوم الجمعة ، وأن يكون جالسا ينتظر الصلاة ؛ لأن المنتظر في حكم المصلي.
قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « في يوم الجمعة ساعة لا يسأل الله أحد فيها شيئا وهو قائم يصلي إلا أعطاه الله إياه » وأشار إلى أنها ساعة قليلة ، فقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يسأل الله فيها شيئا وهو قائم يصلي » قال العلماء : يعني ينتظر الصلاة ، فإن المنتظر له حكم المصلي؛ لأن وقت العصر ليس وقت صلاة.
فالحاصل أن المنتظر لصلاة المغرب في حكم المصلي ، فينبغي أن يكثر من الدعاء قبل غروب الشمس ، إن كان في المسجد ففي المسجد, وإن كان امرأة أو مريضا في البيت شرع له أن يفعل ذلك وذلك بأن يتطهر وينتظر صلاة المغرب"ا.هـ. [مجموع فتاوى ابن باز - (ج 26 / ص 124)].
وقال بض أهل العلم:( المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "قائم يصلي" أي يدعو، لأن الصلاة تأتي بمعنى الدعاء)ا.هـ
وعلى ذلك فلا يحتاج الشخص أن يذهب للمسجد بل يدعو في تلك الساعة وهو في بيته أو في أي مكان كان).
4-أنه يوم عيد متكرر كل أسبوع، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء الجمعة فليغتسل..) الحديث[ابن ماجه وهو في صحيح الترغيب:1/298].
5- ومن خصائص هذا اليوم أنه يوم تكفر فيه السيئات، وتغفر فيه الزلات، ففي صحيح البخاري عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ – رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى".
ولكن هذا التكفير للسيئات وهذه المغفرة مشروطة بأن يجتنب المسلم الكبائر، فإن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة ، ففي المسند، قال عليه الصلاة والسلام:" لَا يَتَطَهَّرُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثُمَّ يَمْشِي إِلَى الْمَسْجِدِ ثُمَّ يُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مَا اجْتُنِبَتْ الْمَقْتَلَةُ" . والمقتلة هي كبائر الذنوب . أعاذنا الله وإياكم منها.
وفي حديث أبى هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر "م .
6 - أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها إذا توفرت فيه الصفات الواردة في الحديث وهو عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من غسَّل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ودنا من الإمام فأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة، وقيامها، وذلك على الله يسير "(أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة والألباني).
فلا يفوتنك هذا الفضل أخي الكريم ، وارج من الله الأجر والثواب ، ففضل الله واسع ، ورحمته وسعت كل شيء .
لكن من كان يتعبه المشي لبعد المسجد أو لكبر سنه وغير ذلك فليأت بالسيارة وفضل الله واسع، والمهم هو التبكير والاستعداد لسماع الخطبة جيداً، وربما يكون خطيب الحي ممن يخالف السنة في خطبته بتطويلها أو نشر الأحاديث الضعيفة أو ممن يطعن على ولاة الأمور تصريحا أو تلميحاً،أو من يكثر من الأفكار دون النصوص الشرعية؛ فيكون الأولى حينئذٍ الذهاب إلى خطيب السنة في أي مكان كان أو من شره أخف من غيره، وليحرص المرء على الحضور عند من يربط الناس بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح وكلام علماء السنة وليذهب إليه ولو بسيارته ،فهذا الذي يدعو النبي- صلى الله عليه وسلم- للحضور عنده، وأما الأجر الخاص بالمشي فإن الله فضله واسع، والأهم هو الاستفادة وقد جاء في الحديث المتفق عليه: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة".
وأما قوله من غسل:أي من غسل رأسه،واغتسل أي اغتسل غسلاً كاملاً مثل غسل الجنابة، وأما المشهور في بعض كتب الفقه، وعند كثير من الناس من أن المراد بقوله (غسل) يعني جعل زوجته تغتسل من الجنابة فهذا غير صحيح وليس من السنة أن يقصد الرجل اتيان أهله يوم الجمعة،بل في أي وقت، ومن ليس له زوجة فهل يحرم من هذا الأجر؟لا ، ومن كانت زوجته حائضاً فهل يحرم من هذا الأجر؟لا؛ فالمقصود هو التنبيه على غسل الرأس جيداً.
ويقول أهل العلم: إنه نبه على تغسيل الرأس لأن العرب قديماً كانت لهم شعور طويلة يدهنونها؛ فنبههم على غسلها جيداً يوم الجمعة.
والصحيح أن المبكر هنا هو من دخل المسجد وتهيأ للخطبة قبل صعود الخطيب ولو بلحظات، وأما من أتى في الساعات الأولى كما في الحديث الآخر فذلك يزيد أجره لزيادة تبكيره، والكل مبكر لكن التبكير درجات فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم- قَالَ :من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة-أي غسلاً كاملاً مثل غسل الجنابة-ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح فى الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح فى الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح فى الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"م.ع.
فأين السابقون إلى تلك الهبات، أين المتعرضون لتلك النفحات ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [الحديد:21].
عباد الله، الحرص الحرص على تعظيم هذا اليوم، واغتنام فضائله، وذلك بالتقرب إلى الله تعالى فيه بأنواع القربات والعبادات، فإن للجمعة أحكاماً وآداباً ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة..