<p><br>
ثمة خلط فى ظاهرة إعجاب الرأى العام العربى بتركيا، بين الإعجاب بسياستها
الإقليمية خاصة مواقفها السياسية إزاء إسرائيل، وبين الإعجاب بالنموذج
الاجتماعى والسياسى الداخلى الذى تقدمه تركيا. الأول هو نوع من الإعجاب
الحماسى الذى يمكن أن يفتر بسرعة –كما صعد بسرعة– حال حدوث تعديل أو تغير
فى المواقف السياسية التركية إزاء مشكلات المنطقة. أما المستوى الآخر من
الإعجاب فهو الإعجاب بالنموذج الاجتماعى والسياسى الذى تقدمه تركيا ككل؛
دولة وحكومة وشعباً وحركات سياسية، وهو إعجاب أكثر عمقاً ورسوخاً، خاصة بعد
نجاحه فى إدماج حزب ذا خلفية إسلامية والقبول بوصوله للسلطة، ضمن أسس
النظام السياسى المدنى (العلمانى) التى التزم الحزب بها بدوره و لم يخرج
عليها، وذلك بعد سنوات من التأزم السياسى الناتج عن حالة الاستبعاد
والتكفير المتبادل التى كانت قائمة بين العلمانيين من ناحية وبين هذه
النوعية من الأحزاب، وسلسلة من الإنقلابات العسكرية والأحكام القضائية ضد
أحزاب إسلامية بسبب عدم التزامها بأسس الدولة العلمانية التى ينص عليها
الدستور التركى. تجسد هذا النموذج فى صورة إنجاز واضح وفق كافة المؤشرات
الدولية وعلى اختلاف المستويات؛ الإقتصادية واللإجتماعية والثقافية لدرجة
أن بعض الباحثين اعتبروا أن تركيا تكاد أن تكون البلد الوحيد فى الشرق
الأوسط الذى يتّجه نحو المستقبل، وهو إنجاز لا نظن أن النخبة والرأى العام
العربى تدرك حجمه ودلالته بشكل صحيح بشكل. وإذا كانت أهمية النموذج تنبع
من تفرده ومن ملاءمته لظروف مجتمعات مشابهة بحيث يمكن تكرار نهجه العام، أى
أنه يمكن أن يشير لمستقبل إقليم كامل لامجرد واحد من مجتمعاته، فإن هذا
التعريف ينطبق على تركيا أكثر من أى دولة أخرى في المنطقة؛ فهى تمتلك فهماً
أكثر تقدّماً وتطوّراً للعلمانية والدولة المدنية ولدور الدين فى المجتمع.
وفى هذا السياق يرى بول سالم مثلاً أن تركيا فهمت كيف تكون ديمقراطيةً
فاعلةً فى الشرق الأوسط، وكيف تجعل الإسلام السياسى معتدلاً، كما فهمت كيف
تمارس النشاط الاقتصادى فى القرن الحادى والعشرين، وكيف تجمع بين الإسلام
والعلمانية، والعلم، والفردية، والجماعات ذات المصالح المشتركة كلّها فى
المجتمع نفسه فى الشرق الأوسط . وفى معركة صراع النماذج فى الشرق الأوسط –
إن جاز هذا التعبير – يظهر أيضا النموذج الإسلامى الثورى الذى تطرحه إيران
وهو نموذج يواجه صعوبات كبيرة مع النظام الدولى ويؤيده قطاع محدد ومغلق من
الإسلاميين الثوريين – شيعة وسنة – فى المنطقة، دون أن يحظى بالإنتشار بين
قطاعات جماهيرية واسعة. أما النموذج الثالث المنافس المطروح بقوة فهو
النموذج السعودى (الوهابى)؛ وهو نموذج لحكم يستند فى شرعيته أساساً على
نسخة من الوهابية التقليدية المتشددة بالنسبة لقطاعات واسعة من الناس فى
عموم العالم الإسلامى ويمكن القول بأن هذا النموذج قد حظى بانتشار وتأثير
ملموس فى المنطقة خلال العقود الأخيرة من السنين مدعوما بنفوذ المال
النفطى، وهو النفوذ الذى ترجم فى السنوات الأخيرة فى صورة نوع من الهيمنة
على الإعلام العربى، خاصة الإعلام الفضائى. بغض النظر عن قلة من الحركات
الإسلامية فى العالم العربى مثل حزب التحرير الإسلامى الذى يرى أن حزب
"العدالة و التنمية" هو حزب علمانى برتوش إسلامية مثله مثل بعض الجماعات
السلفية التى أخذت على الحزب عدم وضعه لمسائل تطبيق الشريعة و الحجاب ..إلخ
على قمة أولوياته وسماحه باستمرار العديد من القوانين مخالفة لأحكام الشرع
الإسلامى. بغض النظر عن مثل هذه الحركات، فإن الحزب حظى بتأييد واسع بين
عموم هذه الحركات. ويشير استطلاع ردود الأفعال العربية إزاء موضوع "النموذج
التركى" إلى غلبة تلك القراءة الإسلامية - مقارنة بغيرها من القراءات –
التى اختزلت النموذج فى أن النظام السياسى التركى سمح بدخول الإسلاميين إلى
الساحة السياسية، بل وقبل أيضاً بوصولهم للسلطة أو أنهم حصلوا عليها عنوة
فى مواجهة تسلط العلمانية التركية، وبالتالى فان الإسلاميين العرب والموقف
السعودى الرسمى احتفيا بنجاحات حزب "العدالة والتنمية" وكأنها انتصار لهم
وللإسلام . بمعنى أخر تمت عملية مماهاة تبسيطية بين النموذج التركى
والنموذج السعودى، على اعتبار أنهما تنويعات على النموذج الإسلامى العام،
وبالتالى يتم تجاهل الاختلافات الجوهرية بين النموذجين.
وصلت هيمنة القراءة الإسلامية على غيرها من قراءات النخبة فى الكتابات
السياسية وفى الإعلام العربى، لدرجة أن تلك الرؤية التى تحاول أن تقرأ
النموذج التركى قراءة مختلفة ترجعه إلى رسوخ القيم الديمقراطية للدولة
العلمانية المدنية، وهى الرؤية التى تعبر عنها قلة من العلمانيين العرب
وتكاد لا تظهر إلا عند عدد من الأفراد القلائل، دون امتلاك القدرة على نشر
الرؤية فى أوساط النخبة العربية باتجاهاتها المختلفة أو الرأى العام
العربى. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل منها الأزمة الفكرية الذاتية والارتباك
الفكرى الذى يعانيه التيار العلمانى، إضافة إلى ظاهرة تغير المزاج العام
للعالم العربى نحو الرؤية الإسلامية على المستويين الاجتماعى والسياسى، وقد
يفسر الأمر أخيراً بما يمكن تسميته هيمنة الإعلام السعودى على الإعلام
العربى بدرجة أكبر من أى مركز اقليمى أخر كما سبقت الإشارة. ويدعم هذا
الأمر ملاحظة العملية الخاصة بإعادة التركيب المختزلة للنموذج التركى
بالتركيز على عناصره الإسلامية مع إهمال العوامل الديمقراطية، وتلك
المتعلقة بما حققته تركيا من إنجاز تنموى وتحديثى كبير. ويمكن تحقيق بعض
التقدم فى فهم حقيقة ما يسمى "بالنموذج التركى" من خلال محاولة الإجابة على
عدد من الأسئلة المفتوحة من قبيل:
1- كيف قرأ العرب "النموذج التركى"؟
2- هل اقتربت هذه القراءات العربية من حقيقة هذا النموذج فعلاً؟
3- إلى أى مدى جاءت هذه القراءات أيديولوجية أكثر منها علمية؟
4- علام ركزت القراءات العربية: على مدنية النظام السياسى وديمقراطيته أم
على مسألة إدماج الأحزاب الإسلامية فى النظام السياسى والقبول بوصولها
للسلطة؟
5- ما مدى حضور الخصائص الأساسية التى يقوم عليها النموذج الراهن للنظام
السياسى التركى فى الوعى العربى المعاصر بهذا النموذج مثل :
- مركزية الدولة،
– أسس "الدولة المدنية": فصل الدين عن السياسة والتعددية وتداول السلطة،
– دور المؤسسة العسكرية،
</p>
<pre>- مرجعية القضاء المدنى فى لحظات الخلاف السياسى،
- دور المجتمع المدنى بما فيه الفعاليات المدنية ذات المرجعية الدينية
على مستوى القيم الثقافية والاجتماعية (مؤسسات الوقف الأهلى على سبيل المثال).
</pre>
<p>6- التباين بين منطق أسلمة المجتمع والسياسة أو مفهوم الإسلام الجهادى
فى العالم العربى
وبين مفاهيم الإسلام المدنى الديمقراطى وروح التصوف التقليدى فى المجتمع
التركى.
7- إلى أى مدى تتوافر هذه الخصائص –أو نظائرها- فى المجتمعات العربية.
8- لماذا تجاهلت معظم ردود الأفعال العربية مناقشة الضوابط المدنية
(العلمانية) التى كان على حزب "العدالة والتنمية" الالتزام بها كشرط
لانخراطه فى نظام سياسى مدنى علمانى غير معاد للدين؟.
9- هل يمكن للنموذج التركى أن يقدم حلولاً لمشكلات التأزم السياسى بين
الدولة وبعض القوى السياسية الإسلامية فى العالم العربى؟.
10- هل تتلاءم درجة النضج السياسى الراهنة فى المجتمعات العربية مع إدراك
إمكانية التوفيق بين أسس الدولة المدنية الحديثة وحدود دور الدين فيها وفق
النموذج التركى؟.
11- هل النموذج التركى هو نموذج للحاضر أم للمستقبل العربى؟ أم أنه غير
مطروح كنموذج أصلاً؟.
12- ما هى المعوقات الراهنة أمام الاستفادة من النموذج التركى فى المجتمعات
العربية؟.
13- ما هى حقيقة الجوهر السياسى لحزب "العدالة والتنمية"؟ حزب مدنى أم حزب
إسلامى أم حزب مدنى على خلفية قيم إسلامية عامة؟.
14- هل يطرح حزب "العدالة والتنمية" نظرية محددة عن نظام سياسى إسلامى
معاصر، أم ينطلق من أسس الدولة المدنية الحديثة مع تأكيد الإسلام كهوية
ثقافية عامة للمجتمع؟، وإلى أى مدى تتطابق هذه الرؤية أو تتباين مع مفهوم
الدولة الإسلامية فى الإدراك المعاصر لتيارات الإسلام السياسى فى المجتمعات
العربية؟.
15- هل تؤثر فكرة الإسلام -كخلفية عامة- على التزام حزب "العدالة والتنمية"
بأسس الدولة المدنية؟.
16- ما الفروق الأساسية بين حزب "العدالة والتنمية"، فكراً وممارسةً، وبين
الأحزاب والقوى السياسية الإسلامية فى العالم العربى؟.
يلاحظ أن معظم الكتاب والباحثون العرب يتناولون النموذج التركى وكأنه نموذج
راسخ ومستقر يمكن التعويل عليه ومناقشته بجدية كاملة على الرغم من أن
ملامحه لم تتجل بشكل واضح لدى النخب والرأى العام العربى، إلا بعد وصول حزب
"العدالة والتنمية" للسلطة قبل سنوات قليلة. وذلك من شأنه ألا يتيح لأى
محلل منصف اعتباره نموذجاً مستقراً راسخاً، وربما كان الوصف الأكثر دقة أنه
نموذج نشط آخذ فى التشكل كمحصلة للجدل والتفاعل والصراع بين قوى اجتماعية
وفكرية وسياسية فى المجتمع التركى المعاصر. والأكثر من ذلك أن هذه الطريقة
فى تناول ما يعرف بالنموذج التركى تتغافل –غالباً دون قصد أو تعمد– عن
سنوات طويلة قريبة من احتكار العلمانيين الأتراك للسلطة وتكرار الانقلابات
العسكرية، ورفض القضاء العلمانى للعديد من الأحزاب الإسلامية التى كان
آخرها حزب أربكان. ثمة اختزال فى القراءة العربية للنموذج التركى إذن تلخصه
فى السماح للأحزاب الإسلامية بالمشاركة فى الحياة السياسية ووصول حزب
إسلامى إلى السلطة، دون قدرة على رؤية هذا النموذج فى شموله الذى يتضمن
حقيقة تجذر قيم الشفافية والديمقراطية فى النظام السياسى العلمانى فى
تركيا، كما يتضمن حقيقة التطورات فى الفكر السياسى التركى التى تمكنت أخيرا
مع حزب "العدالة والتنمية" من التوفيق بين الإلتزام بتقاليد الدستور
العلمانى التى تعنى الوعى بخطورة إقحام الدين فى السياسة بشكل مباشر
واحتكار الحق فى استخدامه بالدعاية السياسية وبين التمسك بالتراث الإسلامى
باعتباره جوهر الهوية الثقافية للمجتمع التركى. أما الاختزال الثانى الأكثر
فداحة فيتعلق بإغفال كافة العناصر الأخرى (المدنية الطابع) المميزة
للنموذج التركى، مثل الدور المركزى للدولة ورسوخ فكرة أولوية الصالح الوطنى
التركى العام، وهى أمور ليست محل خلاف بين الأحزاب التركية على اختلاف
توجهاتها السياسية والأيديولوجية. أما التطور الذى حدث فى طبيعة دور الجيش
وحدوده وضرورة التزامه بالخيارات الديمقراطية للشعب التركى تحت أى مبررات
أو حجج أو نصوص دستورية (خاصة ما يتعلق بالنصوص الدستورية الخاصة بما يعرف
بتهديد أسس الدولة العلمانية).
يتم تصوير هذا التطور فى الإعلام العربى بشكل مبسط وكأنه انتصار نهائى على
العلمانية فى تركيا، وقطيعة كاملة مع تاريخها السياسى، دون التدقيق فى أن
التعديلات لا تمس جوهر العلمانية والدولة المدنية التركية، بل تعنى أنه ليس
كل حزب ذا خلفية إسلامية يمثل تهديداً لأسس الدولة العلمانية، طالما التزم
بالدستور وطالما ظل الدين (الإسلام) فى حدود الهوية الثقافية بالمجتمع دون
إقحام مباشر له في الممارسة السياسية. وهذا بالضبط ما التزم به حزب
"العدالة والتنمية" حتى الآن. وعلى الرغم من أهمية التعديلات الدستورية،
إلا أنها تبدو غير كافية وحدها، إذ يشكك بعض الباحثين فى قدرتها على تكريس
نوع من السيادة المدنية على الجيش. ويرى الباحث التركى عمر تاشبينار أن
المشكلة الحقيقية إنما تكمن فى الثقافة السياسية للجيش والنظام التعليمى،
حيث يتم تلقين العقيدة الرسمية الكمالية . وقد تمثل هذه الخبرة درساً
مفيداً لعملية الإصلاح السياسى فى المجتمعات العربية، إلا أن قراءة الواقع
العربى قد تقود إلى استنتاج مفاده أن المقارنة غير مفيدة ولا تجوز أصلاً،
إذ تفتقر معظم المجتمعات العربية إلى تلك الثقافة الدستورية الديمقراطية من
الأساس. فحتى ما يسمى بالانقلابات العسكرية فى تركيا استندت إلى نصوص
دستورية تبيح للجيش التدخل؛ فى حال استشعر وجود مخاطر حقيقية على أسس
الدولة العلمانية من قبيل إقحام الدين فى الممارسة السياسية التى يفترض
أنها عمل مدنى غير دينى، أو مخاطر جادة تهدد الأمن القومى للبلاد من قبيل
التمرد الكردى. وقد تختلف الأطراف السياسية فى تركيا حول مدى وجود ضرورة
حقيقية لمثل هذا التدخل من قبل الجيش أو لا، ولكن الجميع يتفاعل ويمارس
الخلاف السياسى فى إطار الدستور وبالاستناد إلى نصوصه. والأهم من ذلك أن
خبرة النموذج التركى الراهن تقوم على اللجوء للدستور وللآليات الديمقراطية
لحسم أى خلاف، وقبول المعارضة بخيارات أغلبية الشعب على أمل تغييرها طوعياً
عبر الناخبين أنفسهم مستقبلا، دون تدخل قسرى وغير ديمقراطى من قبل الجيش،
كما كان يحدث سابقا، أو تدخل قسرى محتمل من قبل جماعة تعطى لنفسها الحق فى
احتكار الحديث باسم الإسلام.
تنطلق الرؤية الإسلامية العربية للنموذج التركى من الاعتقاد بوجود قطيعة
كاملة بين النموذج التركى الراهن المختزل فى وصول حزب إسلامى للسلطة، وبين
ما قبله من حكم علمانى عسكرى متسلط، وهى رؤية قد تبدو صحيحة من بعيد ومن
الخارج، ولكنها تفتقر لإدراك النموذج فى شموله وجدلية مكوناته التى أدت إلى
نوع من تراكم الخبرة وتطورها بالنسبة للقوى العلمانية التقليدية، تلك التى
أصبحت بالتدريج أكثر إدراكا لإمكانية وجود أحزاب ذات خلفية أخلاقية
وتراثية إسلامية وتحترم تقاليد الدولة العلمانية ودستورها فى ذات الوقت.
وكذلك بالنسبة للمزاج الاجتماعى الإسلامى والفكر السياسى لتلك الأحزاب ذات
المرجعية الإسلامية العامة، التى لا تعتقد بوجود أدنى تعارض بين الإسلام
وفكرة عدم الإقحام المباشر للدين فى السياسة، أو اللجوء لهيئة دينية عليا
فى كل قرار سياسى أو اقتصادى أو اجـتماعى، وإدراك المخاطر المحتملة لاحتكار
فئة ما، هيئة أو حزب، لتفسير سياسى ما باعتباره –دون غيره– تعبيراً عن
الإسلام الصحيح. يضع النموذج التركى، خاصة فى لحظات تجليه أمام الرأى العام
العربى بعض الأنظمة العربية والحركات السياسية العربية على السواء فى وضع
محرج أحياناً، كما يمثل قوة ضغط غير مباشرة عليها فى اتجاه إدخال العديد من
الإصلاحات على سياساتها الداخلية والخارجية. تؤدى شفافية الانتخابات
والاستفتاءات التركية وقدرة نظامها السياسى على استيعاب أحزاب إسلامية
تلتزم بالدستور العلمانى المدنى، إلى إحراج بعض نظم الحكم العربية. ولكن فى
المقابل فإن عملية إعادة صياغة النموذج التركى واختزاله وتفادى التركيز
على تطور الفكر السياسى لحزب "العدالة والتنمية" مقارنة بأحزاب إسلامية
سابقة عليه
–أربكان وغيره– لعب دوراً فى إعفاء الأحزاب والحركات الإسلامية العربية من
مواجهة نفس الحرج، وهو الأمر الذى يقف حجر عثرة أمام الدراسة الجادة
للنموذج التركى؛ دولة ومجتمعاً، حكومة ومعارضة، علمانيون وقوميون
وإسلاميون، والاستفادة من تلك التجربة القريبة والثرية.
يتم تجاهل بعد آخر فى الفهم العربى للنموذج التركى، أى البعد الاقتصادى
المتمثل فى التطبيق الكفء لعملية إعادة الهيكلة والإصلاح الاقتصادى والموقف
الصارم للدولة والحكومة فى مواجهة الفساد، إضافة إلى أن وصول حزب "العدالة
والتنمية" للسلطة كان يعنى تبلور قطاعات واسعة من طبقة رجال الأعمال الجدد
المتوسطين والصغار، وهؤلاء ذوى ميول أخلاقية وطنية إسلامية تركية محافظة.
هذه الطبقة البرجوازية المنتشرة فى الأناضول لها مصلحة فى الاستقرار
السياسى والنمو الاقتصادى وتحلم بالتعاون الاقتصادى مع الاتحاد الأوروبى،
وهؤلاء مثلوا القوة الاجتماعية التى كانت وراء فوز حزب "العدالة والتنمية"،
الذى يسعى لإشراك هؤلاء المتوائمين الجدد مع العولمة، ليلعبوا دوراً أكبر
فى الاقتصاد والسياسية التركية بعد سنوات من احتكار طبقة كبار الاقتصاديين
الأتراك التقليدين ذوى الميول العلمانية علي النمط الأتاتوركى، والذين كان
الجيش والدولة والقضاء يمثلون التعبير السياسى عن مصالحهم الاقتصادية
وميولهم الاجتماعية وخبراتهم السياسية. لا يقتصر النموذج التركى على
المستوى السياسى فقط إذن، بل يتجاوز وربما يسبق ذلك، المستوى الاجتماعى
أيضا، إذ يمثل الدور الكبير الذى يلعبه الوقف ومؤسساته الأهلية أحد أبرز
جوانب التميز والتفرد للنموذج التركى تقليدياً، وهو عنصر جوهرى من منظور
التنمية الشاملة يفتح الباب أمام المقارنة بين علاقة الدولة بالأوقاف فى
الحالة التركية وفى بعض الحالات العربية. وسؤال أخر حول طبيعة العلاقة بين
مؤسسات الوقف الأهلى وبين ظاهرة التوظيف السياسى لها ... إلخ. أما المقارنة
الأخرى فتتعلق بالطابع الصوفى وتعايش الحركات الصوفية مع الدولة التركية
مقارنة بانتشار الفكر الإسلامى الجهادى العنيف المضاد للدولة المدنية وتركه
لفكرة الدولة الدينية. وتصل إشكالية الاختزال فى القراءة العربية إلى
ذروتها مع تحديد هذه القراءة لهوية حزب "العدالة والتنمية" ذاته، واختزال
الصورة وتبسيطها فى كونه حزباً إسلامياً على الرغم من أن التحليل الجاد
للخطاب السياسى لقادته ولبرنامجه السياسى ومواقفه وسلوكه السياسى تؤكد على
كونه حزباً ليبرالياً فى سياساته كافة. ويحتل الإسلام والتراث التركي
موقعاً محورياً فى تحديده لهوية المجتمع التركى –لا أكثر– دون ترجمة هذه
المكون الإسلامى فى صورة نظرية فى الحكم والنـظام السياسى. ويبدو حزب
"العدالة والتنمية" هنا أقرب إلى أحزاب ليبرالية عربية تعتز بالإسلام كأحد
مكونات الهوية الوطنية لشعوبها، مثل حزب "الوفد" التاريخى فى مصر علي سبيل
المثال. تشكل هذه القراءة إذاً نوعاً من المغالطة التى تمت إشاعتها فى
الفضاء الإيديولوجى والسياسى والإعلام العربى. ويؤدى ذلك إلى نوع من
الضبابية والتعمية التى تعوق الاستفادة من هذا النموذج. إن الفهم الصحيح
لصيغة الفكر الليبرالى الديمقراطى المعتز بتراث الأمة التركية، إنما هو
نتاج للتفاعل التاريخى الخلاق بين العلمانية اللائكية الأتاتوركية المتطرفة
على النمط الفرنسى، التى انتهت إلى نوع من دكتاتورية العسكر وبين أنماط من
الفكر الإسلامى التقليدى التى لم تكن قيم الليبرالية والديمقراطية ومفهوم
الدولة المدنية قد تجذرت لديها علي شاكلة فكر أربكان وسابقيه من القادة
والأحزاب الإسلامية، التى لم تستطيع أن تقنع المجتمع التركى، كما لم تصمد
أمام اختبار احترام الدستور وقيم الدولة المدنية المستقرة فى الثقافة
السياسية التركية حتى بين أنصار حزب "العدالة والتنمية".
ثمة مخاوف حقيقية فى العالم العربى لدى السلطات الحاكمة والنخب المدنية على السواء، من أن القفز إلى الديمقراطية واختزالها فى شفافية العملية الانتخابية، سيأتى إلى الحكم غالباً بنوعية من الإسلاميين غير المتوائمين مع مفاهيم الديمقراطية والدولة المدنية، خاصة فى ظل تدهور الثقافة السياسية العامة. وهؤلاء قد يدخلون البلاد إلى مرحلة من العنف والفوضى. وفى حال حدوث مثل هذا السيناريو فإن مسألة تحديث الفكر السياسى للأحزاب الإسلامية قد تتوارى فى مقابل نشوء نوع من التسلط باسم الدين، والذى قد يستخدم خطأ كمبرر للإنقلاب على الديمقراطية. وبناء على إدراك هذه المقارنة ربما يتوجب على النخبة العربية إدارة حوار نشط حول أحد خيارين: الأول أن تعطى الأولوية لمسألة استئناف النهضة الفكرية والثقافية بما فيها الثقافة السياسية، وهى النهضة التى بدت وكأنها قد تجمدت فى العالم العربى منذ عقود، فى مقابل إنزال الإلحاح على المسألة الديمقراطية إلى المرتبة الثانية. أما الخيار الثانى المطروح للنقاش فيقوم على فكرة مؤداها أن هذا المنطق لا يقدم سوى المزيد من المبررات لاستمرار الأوضاع على ما هى عليه، وأنه لامبرر حقيقياً لتأجيل الديمقراطية، وأن الجماهير لن تتعلم الديمقراطية إلا من خلال الممارسة حتى لو أساءت الاختيار فى البداية. فى خبرة التطور السياسى لتركيا تاريخياً، سبقت مفاهيم أولوية الدولة ومبادئ العلمانية والديمقراطية والدولة المدنية والمجتمع المدنى التى أرساها أتاتورك، سبقت ظهور تلك النوعية من الأحزاب المدنية ذات الخلفية الإسلامية، بينما لم تتجذر ولم تتواصل هذه الثقافة المدنية الديمقراطية التى كانت بدأت فى بعض المجتمعات العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين. كما لم تستحضر الشعوب العربية قيم الحداثة والعلم والمعرفة ولم تشعر بثمارها وجدواها بنفس العمق الذى حدث فى تركيا، وبالتالى فإن المجتمعات العربية تفتقر إلى التكوينات الاجتماعية المدافعة عن قيم الحداثة والمدنية. يبدو أن الدستور العلمانى حمى الدولة والمجتمع فى تركيا من أحزاب إسلامية لم تكن قد تمثلت بالفعل احترام مبادئ وقيم الدولة المدنية الديمقراطية، حتى وصل الاجتهاد فى الفكر السياسى الإسلامى التركى إلى درجة من النضج الذى نجح فى المواءمة بين أسس الدولة المدنية وبين الهوية الإسلامية للمجتمع التركى مع حزب "العدالة والتنمية"، وليس غريباً أنه فى هذه اللحظة بالذات من التاريخ التركى- أى الآن- سمح الشعب التركى لحزب يوصف بالإسلامى الديمقراطى باستلام السلطة وصوت أخيرا فى اتجاه تقييد تدخل الجيش فى السياسة، حيث اختفت مبررات هذا التدخل الذى كان مقبولا من قبل. أما الدرس الأخير الذى يقدمه النموذج التركى فهو أنه كلما أصبحت القوى المدنية فى المجتمعات العربية أكثر جدارة بالشرعية السياسية من خلال أن تنجح فى التنمية وتصبح أكثر ديمقراطية، كلما كان من الممكن لمجتمعاتنا العربية أن تنتقل إلى مرحلة القبول الآمن بمشاركة أحزاب مدنية ذات خلفية دينية أخلاقية عامة. هناك مفارقة أن الجيش الذى يفترض أنه حامى الدولة المدنية والأمن القومى للجمهورية التركية، ولكنه بمجرد فقدان المجتمع للقدرة على إدارة شؤونه من خلال التفاوض السياسى السلمى، فإن الجيش يقفز لإدارة الدولة بشكل مركزى تسلطى يتنافى مع المفهوم الأصلى للدولة الديموقراطية. أى أن تدخل الجيش يأتى دائما فى أعقاب فشل السياسة والسياسيين فى إدارة التفاعل السياسى أو إدارة عملية الإصلاح السياسى بشكل آمن ومستقر من خلال التوازن بين التعبير عن مصالح قوى اجتماعية صاعدة وبين محاذير الخروج على أسس الدولة المدنية الحديثة. إن عملية إعادة صياغة دور الجيش فى السياسة التركية هى أحد مواطن الاستفادة العربية من النموذج التركى الجديد الآخذ فى التشكل.