إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد ؛
مدخل الشبهة على الحق ليس من باب الباطل المحض، لأن الباطل المحض تنفر منه الفطر السليمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
(1) "الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل لما فيه من الشبهة؛ فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد؛ لا يكون قولاً ومذهباً لطائفة تذب عنه، وإنما يكون باطلاً مشوباً بحق، كما قال ـ تعالى ـ في سورة آل عمران:
(2) (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(71)" ["درء تعارض العقل والنقل" (7/170-171)]
لذا فإن مدخل الشبهة على الحق من باب بنائها عليه.
قال العلامة عبد الرحمن المعلمي:
(3) "فلا يكاد يوجد حق لا يمكن أن يحاول مبطل بناء شبهة عليه، فمن التزم أن يتخلى عن كل ما يمكن بناء شبهة عليه أوشك أن يتخلى عن الحق كله". ["الأنوار الكاشفة" (ص:299]
فالتلبيس الذي يفعله المبطل، والتحايل على الحق، يحتاج أحيانا إلى مهارة، لأن الملبِّس المحتال يعمد إلى متعلق دليل شرعي لفتنة الناس.
قال الأوزاعي:
(4) "عليك بآثار من سلف، وإياك وآراء الرجال؛ وإن زخرفوها بالقول".["ذم الكلام" للهروي (120)]
لأن الزخرفة نوع من التأويل الفاسد من أجل إلباس الحق بالباطل.
قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ:
(5) "يبعد في مجاري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل يقدح له، بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق دليل شرعي".["الاعتصام" (2/163)]
فأهل الكتاب خلطوا الحق بالباطل، هذا معنى قوله ـ تعالى ـ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) قاله: الطبري ـ رحمه الله ـ.
فمن سوء صنيع أهل الكتاب أنهم ستروا الحق، أو خلطوه بالباطل، وبالتالي عمدوا إلى تحريف التوراة والإنجيل، أو نافقوا، أو أنهم ادعوا الإيمان بموسى وعيسى وكفروا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو كذَّبوه. فأرادوا بالتلبيس تمويه الحق، وكذلك فعل المنافقون وأهل البدع والأهواء في أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدخلوا الأكاذيب، والخرافات، والتأويلات الفاسدة، والفهومات الخاطئة، المضلة، وزبالة آرائهم، واستنتاجاتهم العقلية في فهم نصوص الوحي، واستعانوا على ذلك بالأحاديث والآثار الموضوعة والضعيفة، ونقلوا ما يسمح لهم التزييف والتحريف حتى غلَّبوا مشروعهم من الفساد العظيم من أجل كتمان الحق، وتضليل الناس عن الدعوة السلفية ومنهجها في بيان الحق.
فلدعاة الباطل طريقتان في تضليل الناس:
الأولى: التلبيس، وهو خلط الحق بالباطل.
والثانية: كتمان الحق.
وقد استعمل أهل الكتاب الطريقتين الخبيثتين لصرف الناس عن الحق، فأهل النفاق والبدع في كل أمة بتلبيساتهم يضللون الناس عن الحق وهو منهاج الطائفة المنصورة، حتى بلغ التلبيس ذروته بادعاء كل فرقة ضالة أنها هي الطائفة المنصورة!!! بعد أن اتخذت كل فرقة من التأويلات الفاسدة التي بموجبها تعزز هواها في مخالفة هدي النبوة والسلف عن علم.
لذلك طلع علينا ـ حديثاً ـ ممن انتسب إلى أهل العلم يزكي الضلاّل، ويدافع عنهم، ضارباً حكم العلماء السلفيين بالحائط، فأدخل العوام الذين يريدون الحق في الحيرة، فبنى على الحق شبهة لبَّس فيها، ففتن بقوله خلق كثير من طلبة العلم، فإلى الله المشتكى من صنيعه الباطل.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
(6) "والشبهة وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له". ["مفتاح دار السعادة" (1/140)]
لكن لا يعني وقوع الشبهة على الحق أن تكون سبباً في الزيغ والضلال، لأن على طالب العلم المبتلى أن يقف على التأويل الصواب ويجتهد ويبذل وسعه مخلصاً لله، متبعاً الدليل الصحيح من الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح للوصول إلى الحق.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
(7) "فالحق يعرفه كل أحد؛ فإن الحق الذي بعث الله به الرسل لا يشتبه بغيره على العارف؛ كما لا يشتبه الذهب الخالص بالمغشوش على الناقد".["مجموع الفتاوى" (27/315-316)]
وفائدة الابتلاء لمعرفة الحق هو الرجوع إلى أمر الله، من أجل العمل به، أو النكوص عنه، فالأمة تبتلى بمجيء العلم النافع (الدعوة السلفية)، وتبتلى بظهور البيِّنات (الحجج الساطعة الباهرة)، وتبتلى لتعمل بالحق الذي مبناه على العلم والبيِّنة.
قال العلامة المعلمي ـ رحمه الله ـ:
(8) "ووجود النصوص التي يستشكل ظاهرها لم يقع في الكتاب والسنة عفواً، وإنما هو أمر مقصود شرعاً ليبلو الله ـ تعالى ـ ما في النفوس، ويمتحن ما في الصدور، وييسر للعلماء أبواباً من الجهاد العلمي، يرفعهم الله به درجات".["الأنوار الكاشفة" (ص223)]
فصاحب الهوى أعمى عن وجه الحق، أصم عن سماع الحجج، فلا يسمع ما ينتفع به، وأما المؤمن المنتهج منهاج النبوة والسلف فهو ذكي لبيب، بصير بالحق، يميّز بينه وبين الباطل، فيتبع الخير ويترك الشر، سميع للحجة، يفرق بينها وبين الشبهة فلا يروج عليه الباطل، ولذلك فإن أهل البدع والأهواء الذين عندهم قابلية للزوغان، لوجوده أصلاً في قلوبهم المريضة، ونفوسهم الخبيثة، سَهُلَ عليهم الوقوع في المتشابه، لأنهم في قرارة أنفسهم يقرّوه ويتعلقوا به ويسعون إليه، وبالتالي فإنهم يرغبون بإلحاح أن يوقعوا غيرهم في الضلال والفتنة من طريق الشبهة، قال ـ تعالى ـ:
(9) (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ) [آل عمران/7]
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ:
(10) "وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله:
(11) (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) [البقرة/70]
أي: التبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر، والمراد بالمحكم ما في مقابله هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وقيل إن المتشابه ما يحتمل وجوهاً، ثم إذا ردَّت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً. فالمحكم أبداً أصل ترد إليه الفروع؛ والمتشابه هو الفرع".
وقال:
(12) "والإحكام من الإتقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال".
وقال محمد بن جعفر بن الزبير:
(13) "المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عمّا وضعن عليه. والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد" [وقاله: مجاهد وابن اسحاق، وقال ابن عطية: وهذا هو أحسن الأقوال في هذه الآية."الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي]
ذكر الله ـ تعالى ـ وجود الداء أولاً وهو الزيغ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الذي بسببه أُلحق المتشابه،(فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)، فنصوص الوحي عند عرضها يقع عليها أحياناً أو يبنى عليها اشتباه وهو من باب الابتلاء، لكن هذا الاشتباه يسير إلى وجهته المقصودة عندما يلاقي قلباً زائغاً. مما يجعل المبتدع ـ الزائغ ـ يتمسك بهذه الشبهة ليستدل بها على زيغه وتحريفه الحق فيستحق من الله العقاب فيعاقبه بأن يزيغ قلبه. كما قال ـ تعالى ـ:
(14) (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)[الصف/5]
والزيغ : هو الميل عن طريق الحق، أي: فلما صاروا إلى الميل عن الحق مع علمهم به، واستمروا على ذلك دون تأثرهم بالمواعظ، أمال الله ـ تعالى ـ قلوبهم عن قبول الهدى. لإيثارهم الباطل على الحق، والضلالة على الهداية. كما قال ـ تعالى ـ في سورة النساء: (15) (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(115).
فقوله ـ تعالى ـ:
(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) فأسند الذنب إليهم والعقوبة إليه. وإن كان الكل فعله تعليماً لعباده الأدب، وإعلاماً بأن أفعالهم الاختيارية ينسب إليهم كسبها ويقوم به الحجة عليهم لعدم علمهم بالعاقبة.
ونقل القرطبي ـ رحمه الله ـ عن شيخه أبو العباس ـ رحمه الله ـ أنه قال:
(16) "متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلباً للتشكيك في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن؛ أو طلباً لاعتقاد ظواهر المتشابه".
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ:
(17) "وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران".
وقال قتادة في تفسيرها:
(18) "إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم". [نقله القرطبي في "الجامع" عنه]
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآية، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) إلى (أُولُو الألْبَابِ) قالت: فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(19) "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". ["صحيح سنن أبي داود" (4598)، وأخرجه ابن ماجه، والترمذي]
وأخرج الإمام مسلم وأحمد عن جابر بن سمرة مرفوعاً:
(20) "إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم". ["صحيح الجامع" (2050)]
وهذا الذي ابتليت به الفرق والجماعات الإسلامية المعاصرة التي افترقت في أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن منهج النبوة والسلف.
فالقرآن العظيم كله محكم كما قـال ـ تعالى ـ:
(21) (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود/1]
فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان، قال ـ تعالى ـ:
(22) (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة/50]
قال العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ:
(23) "وكله متشابه في الحسن والبلاغة، وتصديق بعضه لبعضه، ومطابقته لفظاً ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله (مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال، (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، (وَ) منه آيات(أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضاً، ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين:
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد، (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه".
فهؤلاء الذين في قلوبهم زيغ لم تقف معصيتهم عند قبولهم المتشابه يعملون به، بل سعوا مجتهدين في طلب غيرهم لإضلالهم وإثارة الشكوك حول الحق، فقوله ـ تعالى ـ:(فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) يعني أنهم طلبوا الفتنة باجتهاد وعناية ونشاط، فإنهم لازموا الأخذ بالمتشابه كما يلازم التابع متبوعه، لأن المتشابه يوافق أهواءهم وما احتوته نفوسهم من خبث وشهوة باطلة.
قال العلامة المعلمي ـ رحمه الله ـ:
(24) "لكن أهل الأهواء حاولوا التشبيه والتمويه، فالواجب على الرّاغب في الحق ألا ينظر إلى ما يجيئه من معدن الحق من وراء زجاجاتهم الملونة، بل ينظر إليه كما ينظر إليه أهل الحق والله الموفق".["التنكيل"(2/217)]
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
(25) "لو علم أهل التأويل الفاسد أي باب شر فتحوه على الأمة بالتأويلات الفاسدة، وأي بناء للإسلام هدموه، وأي معاقل وحصون استباحوها، لكان أحب إلى أحدهم أن يخر من السماء إلى الأرض ولا يتعاطى شيئاً من ذلك".
وقال:
(26) "فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دلَّ عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل؟ وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟".["إعلام الموقعين" (4/249-250)]
وذكر ابن مفلح أن المتوكل أرسل إلى الإمام أحمد رسولاً يستفتيه، فقال: ترى أن نستعمل النصارى في أعمال الدولة أو أهل الأهواء؟ فقال:
(27) "يستعمل النصارى، ولا يستعمل أهل الأهواء".
فلما خرج رسول المتوكل سأل الإمام أحمد مَن عنده، فقال: ـ رحمه الله ـ:
(28) "اليهود والنصارى مفضوحون، وأما أولئك فيلبِّسون على الناس دينهم". ["الآداب الشرعية" (ص165)]:
لذا جاء التحذير من مخالطة المبتدعة ـ أهل الباطل والأهواء ـ، قال الذهبي بعد أن نقل قول سفيان الثوري:
(29) "من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم، خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه". ["سير أعلام النبلاء" (7/261)]
وقال الإمام الصابوني ـ رحمه الله ـ في وصف أهل الحديث:
(30) "ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرّت وجـرّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرّت، وفيه أنزل الله ـ عز وجل ـ قوله:
(31) (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام/68] ["عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: 114-115)]
وحذّر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من الفرق الباطنية التي لبّست على المسلمين فقال:
(32) "ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذبَّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظَّم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو، أو من قال: أنه صنَّف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً ويصدون عن سبيل الله". ["مجموع الفتاوى" (2/132)]
والواجب على من أحب الحق وأهله أن يحذر أفاعيل أهل البدع والأهواء فهم يسعون جميعاً بكل ما أوتوا من عزيمة ونشاط؛ لإسقاط المستقيم في أوحال الضلال، فيأتونه من كل الأبواب التي تقدم ذكرها واعتبرناها من الأسباب المهمة التي تثني عن الحق. ولم يقف الحد عند هذا، بل إذا استطاع هؤلاء الضلاّل وشياطينهم أن يستحوذوا بطرقهم الإبليسية على العلماء فيوقعوهم بفخاخهم فإنهم يقودوهم أولاً إلى إلباس الحق بالباطل وبالتالي تصير الطرق أمامهم ممهدة لإدخال المجتمعات الآمنة في الفوضى العلمية وفي دوامة الخطر الذي لا يحمد عقباه.
قال العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ:
(33) "فوبّخهم على لبس الحق بالباطل وعلى كتمان الحق، لأنهم بهذين الأمرين يضلون من انتسب إليهم، فإن العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل فلم يميزوا بينهما، بل أبقوا الأمر مبهما وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره، ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب، ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه، والمقصود من أهل العلم أن يظهروا للناس الحق ويعلنوا به، ويميزوا الحق من الباطل، ويظهروا الخبيث من الطيب، والحلال والحرام، والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة، ليهتدي المهتدون، ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين. قال ـ تعـالى ـ:
(34) (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)[آل عمران/187]
ومن المهم أن يتذكر الإنسان نعم الله ـ تعالى ـ، وأغلى هذه النعم الدعوة السلفية التي دعا إليها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال ـ تعالى ـ في سورة البقرة:
(35) (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151).
فحذر الله ـ تعالى ـ قريشاً أن تسلك مسلك المغضوب عليهم والضالين، فيكفرون نعمة الله ـ تعالى ـ، فقدَّم التحذير ـ الآتي ـ على الامتنان بقوله عن أهل الكتاب:
(36) (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ(147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148).
قال العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ:
(37) "فالعالم عليه إظهار الحق، وتبيينه وتزيينه، بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال، وغير ذلك، وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق، وتشيينه وتقبيحه للنفوس بكل طريق مؤد لذلك، فهؤلاء الكاتمون عكسوا الأمر فانعكست أحوالهم".
فالدعوة السلفية ـ بارك الله فيكم ـ وعصمكم من الزلل؛ منصورة لأن أهلها القائمون عليها يثبتون على الحق عند الابتلاء فلم يختلفوا ولم يتغيروا، ولم يتبعوا المتشابه، فلثباتهم على الحق وظهورهم عليه بقوا في دائرة أهل الحديث، ونجوا من الانحراف فلم يدخلوا في درب أهل البدع ولم يضربوا عن السنة، فإن السير في ركب أهل البدع والأهواء مخرج من دائرة أهل الحديث، ومورث للهزيمة، وممهد لتأوّل الكتاب على غير ما بيَّنت السنة قال ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ:
(38) "أهل البدع أجمع أضربوا عن السنَّة، وتأولوا الكتاب على غير ما بيَّنت السنَّة، فضلوا وأضلوا، ونعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق والعصمة ".[جامع بيان العلم وفضله]
لذا كان تخوف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحذيره من منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن، بسبب حرمانه النعمة الكبرى؛ نعمة الدعوة السلفية، فقد أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب مرفوعاً :
(39) "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان".["الصحيحة" (1013)]
وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر:
(40) "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال يهدمه: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين".[رواه الدرامي، وهو في "مشكاة المصابيح" (269)]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
(41) "وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غـاية الاستقامة والسداد، والصحة والاطراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح، والمنقول الصحيح، وأن من خالفه كان مع تناقض قوله المختلف، الذي يؤفك عنه من أفك، خارجاً عن موجب العقل والسمع، مخالفاً للفطرة والسمع".["مجموع الفتاوى" (5/212-213)]
لذا جاء في سورة الشورى (62/نزول) قوله ـ تعالى ـ
(42)( فلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(15).