عباد الله: إن الله تعالى قد فضل الناس بعضهم على بعض فمنهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم الموسر ومنهم المعسر، وهذا المال فضل الله يؤتيه من يشاء وينزعه عمن يشاء، فلم يجعل الناس فيه سواسيه وهذا من حكمة الله تعالى الحكيم الخبير.
فعلى الغني أن ينظر في حال الفقير ولا يتكبر ويشكر نعمة الله عليه، وعلى الفقير أن يسعى لكسب رزقه الحلال ولا يتقاعس ولا يكن عالة على غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعلى الفقير بل والغني أيضاً أن يبتعد عن الدين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لكن إن احتاج إلى ذلك فلا حرج عليه في الشرع الكريم، إذا التزم بالشرع الذي بين أحكاماً وآداباً للدَّين ينبغي أن يعلمها من اضطر إلى ذلك الأمر.
عباد الله: لقد كان رسول الله يستعيذ من ازدياد الدين على الإنسان حتى يغلبه فيصبح لا سبيل له لحل مشكلته المادية وهذا يدل على خطر الجرأة على الدَّين، فروى النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء).
وقد بين رسول الله سبب استعاذته من الدين وذلك أنه سببٌ للكذب ولإخلاف الوعد، فتجد المدين غالباً ما يتهرب عن صاحب الدين، ويكذب في قوله فيقول: أوفيك اليوم أو غداً، ثم لا تجد له خبراً ولا تسمع له حساً، ويقول: أعطيك هذا الشهر قسطك وما يلزمني ثم لا يلتزم، وهذا واقعهم وحالهم، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَدْعُو في الصَّلاةِ وَيَقُولُ: (اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) فقال له قَائِلٌ: ما أَكْثَرَ ما تَسْتَعِيذُ يا رَسُولَ اللَّهِ من الْمَغْرَمِ. قال: (إِنَّ الرَّجُلَ إذا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) رواه البخاري.
وعلى من أراد أن يستدين أن يجعل نيته تامة في أداء هذا الدين، فلا يأخذ مال الناس أو يجعلهم كفلاء على القروض ثم لا يوفي الحق فتقع على رأس المحسنين، بل تجده لا يبالي بأداء حقوق الناس، بل يأخذ مالهم وهو يبيت النية على عدم السداد، وقد جاء في هذا الوعيد الشديد، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي قال: (من أَخَذَ أَمْوَالَ الناس يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى الله عنه، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ الله) رواه البخاري.
فالدين عباد الله من الأمانات التي يجب الوفاء بها وإرجاعها إلى أهلها ولا يتساهل في ذلك، ولا يقدم نفسه على صاحب الدين بل يقدم وفاء دينه على مصلحته ونفسه، وقد كان رسول الله حريصاً على أداء الدين، فعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال كنت مع النبي فلما أَبْصَرَ يَعْنِي أُحُدًا قال: (ما أُحِبُّ أَنَّهُ يحول لي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي منه دِينَارٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلا دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ) رواه البخاري.
وقد أثنى رسول الهدى على من يحسن في قضاء ما عليه حتى قال كما في حديث أبي هريرة : (خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً)، وفي المقابل أثنى الرسول على صاحب المال حين ييسر على المعسر وينتظره حتى تنتهي مشاكله، عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال سمعت النبي يقول مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ له قال: كنت أُبَايِعُ الناس فَأَتَجَوَّزُ عن الْمُوسِرِ وَأُخَفِّفُ عن الْمُعْسِرِ فَغُفِرَ له)، بل يجوز لصاحب الدين والمال أن يعفو عن بعض ماله ودينه طلباً للأجر من الله تعالى، فعن جَابِرَ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنهما أخبره أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يوم أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ في حُقُوقِهِمْ فَأَتَيْتُ النبي فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أبى فَأَبَوْا فلم يُعْطِهِمْ النبي حَائِطِي وقال سَنَغْدُو عَلَيْكَ فَغَدَا عَلَيْنَا حين أَصْبَحَ فَطَافَ في النَّخْلِ وَدَعَا في ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ وَبَقِيَ لنا من تَمْرِهَا)، وقد بوب عليه البخاري بقوله: (بَاب إذا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أو حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ). ومن فوائد هذا الحديث كذلك فضل الشفاعة في إسقاط الدين أو تخفيفه عن المدين.
وإن تعجب -عبدَ الله- فعجبٌ ممن يملك المال الكثير وقد رزقه الله الخير والفضل، ومع هذا تجد يده معتادةٌ على السؤال والأخذ، فإذا أخذ ماطل ولم يوف، لذلك وصفه رسول الله بالظالم، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يقول قال رسول اللَّهِ : (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْم).
بل عاقبه الشرع كذلك بجواز غيبته وذكر ظلمه عند من يكون الكلام عنده مصلحة كالقاضي وغيره، فجوّز أن يشتكيه، وللحاكم أن يعاقبه، فقد قال رسول الله : (إن لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا) رواه البخاري.
وعن الشريد بن سويد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته). رواه أبو داود والنسائي ، قال ابن المبارك يحل عرضه: أي يغلظ عليه . وعقوبته أي يحبس.
فاحرصوا عباد الله على عدم الانغماس في الدين وابتعدوا عنه ما استطعتم، وإن وقعتم فيه فبادروا إلى أدائه، والوفاء به، ولا تضيعوا أموالكم فيما لا حاجة لكم فيه، عن الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ قال قال النبي : (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وقال وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) رواه البخاري.
قال اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وإذا حَكَمْتُمْ بين الناس أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كان سَمِيعًا بَصِيرًا).
أقول ما تسمعون ....
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. أما بعد:
عباد الله لقد جاء الوعيد الشديد والعذاب العظيم من الله تعالى على من يقع في القروض الربوية والدين الربوي، الذي قد تعدده صوره في هذا العصر وكثرة مصادره، وتنوعت الدعايات والتسهيلات له، لا كثر الله أهله.
فالمرابي محارب لله ولرسوله، ومن يقوى عباد الله على حرب جبار السموات والأرض، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).
والربا له أشكال كثيرة وآثام كبيرة فاسمعوا إلى أقلها ذنبا وإثما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا سبعون بابا أدناها كالذي يقع على أمه). رواه البيهقي.
ومن صور الربا التي يتساهل بها الناس وينبغي التنبيه عليها أن يشتري أحدهم الذهب أو الفضة بالدين، أو يقول له أعطيك المال غداً أو يعطيه بعض المال والباقي في وقت آخر، فهذا من ربا النسيئة الذي لا يجوز، فلابد في الذهب والفضة أن يكون يداً بيد مثلاً بمثل، حتى شراء الذهب بالبطاقة البنكية ولو كان في حسابه مال مما ينبغي الابتعاد عنه لوجود شبهة الربا والنسيئة، روى البخاري عن ابن شِهَابٍ عن مَالِكِ بن أَوْسٍ أخبره أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَدَعَانِي طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حتى اصْطَرَفَ مِنِّي فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا في يَدِهِ ثُمَّ قال حتى يَأْتِيَ خَازِنِي من الْغَابَةِ ( أي أنه اتفق على شراء الذهب ولكن أخر المال حتى يأتيه خازنه) وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذلك فقال: والله لَا تُفَارِقُهُ حتى تَأْخُذَ منه قال رسول اللَّهِ : (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ).
فاحذروا عباد الله الربا بجميع صوره، وعلى من وقع منه شيء من ذلك أن يبادر بالتوبة إلى الله تعالى، فباب التوبة مفتوح، ويسارع في التخلص من هذا الربا ويقلع عنه ويندم عليه، فعاقبته وخيمة على نفسه وأهله وولده، إذ هو من أسباب نزع البركة من الرزق.
اللهم جنبا الربا والزنا والوباء والفتن ما ظهر منها وما بطن ...