أثارت رغبة زوجة في الإنجاب من زوجها المتوفى قبل 29 عاماً جدلاً فقهياً بين علماء الأزهر، اذ أكد بعضهم أنها مباحة شرعاً بضوابط معينة، في حين عارضها آخرون ووصفوها بأنها عبث علمي وأضرارها أكثر من فوائدها، ولهذا لابد من سن تشريعات تجرّمها لما فيها من مخالفات شرعية. فما هي الأدلة الشرعية التي استند إليها كل من الفريقين؟
بدأت القضية عندما لجأت سيدة ألمانية الى القضاء لكي تستطيع الإنجاب من زوجها المتوفى قبل 29عاماً، والذي لم يتبق منه إلا بعض الصور وصندوق زجاجي صغير فيه بويضات قام الزوج بتخصيبها قبيل وفاته. إلا أن المستشفى رفض إعادة البويضات المخصبة للزوجة، وهذا ما دفعها إلى اللجوء الى القضاء للحصول على الجنين الذي بقي بعدما حفظته في البنك كأمانة تستردها وقتما شاءت، وليس على المستشفى الاعتراض، ومازالت القضية مثار جدل واسع في الغرب، خاصة أن الزوجين اختارا إجراء عملية تخصيب خارج الرحم في أحد المستشفيات، ولكن الزوج توفي في حادث سير بعد ذلك بفترة قصيرة.
قواعد شرعية
وقال رئيس لجنة البحوث الفقهية في مجمع البحوث الإسلامية والرئيس الأسبق لجامعة الأزهر: «من المتفق عليه شرعاً أن حُرمة الإنسان يجب أن تصان حتى وإن كان عبارة عن خلية واحدة في عملية إخصاب خارج رحم الزوجة كطريقة علاجية لأن الحياة موجودة قبل أن يتكون الجنين من خلال الحيوان المنوي والبويضة قبل أن يلتقيا. ولهذا كفل الإسلام للأجنة حق الحياة وحرّم الاعتداء عليها من خلال تأكيده مجموعة من القواعد الشرعية لحماية الأجنة من العبث سواء بالإجهاض أو القتل، حيث أوجب عقوبة مالية تسمى «الغرة» على من أنزل أو أسقط جنيناً قبل الشهر الرابع من الحمل. ومن المعروف أن «الغرة» قيمتها عُشر دية البالغ، وفي الوقت نفسه ألزم من أجهض حملاً بعد الشهر الرابع بالدية كاملة يتم دفعها لورثة الجنين الشرعيين، ولهذا يُحرّم شرعاً حمل الزوجة ممن كانت مرتبطة به واشتركا معاً في تكوين الجنين ثم حدث الانفصال بينهما سواء كان بإرادتهما كالانفصال أو الخلع أو الطلاق، وكذلك إذا توفي الزوج لمدة طالت أو قصرت حتى ولو كان بعد خروج الروح من الزوج بثوانٍ معدودات».
تفاصيل طبية
عن بداية فكرة بنوك الأجنة يقول الدكتور جمال أبو السرور أستاذ طب النساء والتوليد في جامعة الأزهر: «بـدأ وضـع الأجنة البشرية في البنوك ابتداءً من عام 1976، بعدما كانت أجنة الحيوانات فقط هي التي تُحفظ فيها للمساعدة في تنمية الثروة الحيوانية. وأصبحت الحاجة ملحة لبنوك الأجنة البشرية الى تجميدها بعدما أصبح هناك فائض منها في المختبرات بعد عمليات أطفال الأنابيب أو قيام الزوجين بحفظ فائض الأجنة للإنجاب مستقبلاً وقتما يقرران ذلك، وتطور الأمر إلى إمكان حفظ الحيوان المنوي ليتم استخدامه مستقبلاً للتخصيب.
وفي عمليات أطفال الأنابيب كان الأطباء يستخلصون بويضة واحدة من المبيض لإجراء التلقيح الصناعي عليها في المختبر، وعندما تتكون المراحل الأولى للحياة الإنسانية ينقلونها الى الرحم. وأعقبها استحداث طريقة جديدة بتنشيط المبيض كيميائياً بالعقاقير لاستخلاص أكثر من بويضة واحدة، ووصل الأمر إلى استخراج ما بين 4 و6 بويضات وتخصيبها خارج الجسم في المختبر للحصول على أجنة بالعدد نفسه. وعادة ما تنقل ثلاثة أجنة فقط الى الرحم لاختيار أفضلها نمواً ويُترك الفائض في البنوك مجمداً.
وأوضح أبو السرور أن بنوك الأجنة «عبارة عن ثلاجة أو غرفة كيميائية صغيرة تستخدم لتجميد الأنسجة والخلايا تماماً. ومن المعروف أنه عندما تتجمد الأنسجة تقف فيها كل التفاعلات الحيوية، وعندما يُراد الاستفادة من الأنسجة أو الأجنة تُرفع درجة الحرارة تدريجياً فتعود التفاعلات الكيميائية، أي تعود اليها الحياة من جديد».
وهذه العملية تتم في كل مراكز أطفال الأنابيب في العالم بما فيها الدول الإسلامية، «ويمكن حقن تلك الأجنة أو بعضها مرة أخرى في رحم الأم إذا ما فشلت التجربة السابقة أو بعد الحمل والولادة، لأنه يمكن الاحتفاظ بهذه الأجنة لسنوات طويلة، فإذا رغبت الزوجة في الحمل من جديد تُؤخذ الأجنة جاهزة من البنك وهناك من تتبرع بها لغيرها أو تبيعها لامرأة أخرى».
تحذير من التلاعب
وحذّر عضو مجمع البحوث الإسلامية الدكتور محمد رأفت عثمان من بقاء الأجنة في البنوك لمدة طويلة لما قد ينتج عنه من محظورات كثيرة أقلها أن تطلب الزوجة نقلها اليها بعد وفاة زوجها. وكما هو معروف فإنه بوفاة الزوج تُلغى شرعية الزواج والآثار المترتبة عليه وتنقطع كل صلة بين الزوجين، وبالتالي ليس من حق الزوجة أن تُنجب منه بعد وفاته حتى ولو كان مشاركاً بالفعل في تكوين الجنين في حياته.
وأشار إلى أن بقاء الأجنة في البنك يجعلها عُرضة للاختلاط ولوعن طريق الخطأ، ولهذا فلا بد من استخدام فائض الأجنة الموجود في البنوك عن طريق الأم الحقيقية مع اشتراط قيام حياة زوجية وبرضا الطرفين، وبالتالي لا يجوز أن تستخدمها الزوجة بقرار منفرد حتى في حالة قيام الحياة الزوجية، ويحرّم استخدامها إذا وقع الطلاق أو توفي الزوج مثلاً. ومن هنا يجب تجريم التصرف المنفرد من الزوجة بعد وفاة الزوج أو حتى في حياته بعد الانفصال بأي شكل من الأشكال، ولهذا احذّر من العبث بالأجنة لأن هذا يُجلب غضب الله ويمكن أن تضيع الأنساب وتنتشر الفواحش بكل صورها.
جائزة بشروط
وقال عضو مجمع البحوث الإسلامية والعميد السابق لكلية الشريعة والقانون الدكتور حامد أبو طالب: «إن البويضات الملقحة الزائدة هي في الواقع أجنة من الناحية الشرعية والطبية، ولها حرمة وكرامة يجب احترامها وعدم الاعتداء عليها بأي شكل، لأن هذا أشبه بالوأد أو الإعدام الذي يجرّمه الشرع والعقل، وبالتالي يجب ألا تكون عرضة للتجارب المخبرية أو العبث الطبي».
وأوضح أن عملية أطفال الأنابيب أجازها الإسلام لعلاج العقم الذي يهدد بانهيار الحياة الزوجية، ولكنه وضع لذلك شروطاً يجب الالتزام بها حتي لا يتحول المباح إلى حرام، مثل اشتراط أن يتم ذلك أثناء وجود حياة زوجية شرعية قائمة أو أن يوجد من الضوابط الشرعية والطبية الصارمة ما يضمن المحافظة على تلك الأجنة الفائضة، لأن تركها في بنك الأجنة دون ضوابط يعرضها للاستخدامات العبثية المرفوضة شرعاً.
وطالب بأن تؤلف لجنة طبية وشرعية وقانونية في كل مركز يقوم بعملية التلقيح الصناعي الداخلي أو الخارجي تكون مهمتها الإشراف والمتابعة ورعاية الأجنة الفائضة ومنع أي عمليات للتلاعب بها بأي شكل، حتى ولو كان من الزوجة السابقة المشاركة في تكوين هذه الأجنة، طالما تخطت الموانع الشرعية والقانونية التي تمنع أخذها لتلك الأجنة للإنجاب.